في غزة.. حين تتحول الجامعة إلى خيمة، والكتب إلى حطب
في مشهد يلخص المعاناة، تقف الجامعة الإسلامية في غزة شاهدة على أكبر مأساة أكاديمية: مبنى أنشئ ليصنع العلماء، صار مأوى للناجين من القصف؛ وقاعات كانت تعج بالمحاضرات، غدت ركامًا من الخراب؛ ومكتبات زاخرة بالمعرفة أصبحت مادة للاحتراق.
منذ أن عادت آلة الحرب الإسرائيلية إلى الجنون في مارس 2024، لجأ آلاف الفلسطينيين إلى حرم الجامعة الإسلامية في غرب مدينة غزة، هاربين من الموت الزاحف على أحيائهم، بعد أن أعلنت قوات الاحتلال منطقة بيت حانون شمال القطاع “منطقة قتال” وأمطرتها بالقذائف.
من الزرع إلى الزلزلة
في 22 مارس، وتحت المطر الغزير، اضطر عمر الزعنون (60 عامًا) إلى الفرار مع أسرته المكونة من ستة أفراد من بيت حانون. “عدنا مؤخرًا بعد الهدنة لنعيد زراعة أرضنا ونرمم ما تبقى من حياتنا، لكننا فوجئنا بانهيار السلام وعودة الجحيم”، قال الزعنون لموقع +972، مضيفًا: “لم أفكر لحظة في مدارس الأونروا لأنها أصبحت أهدافًا مفضلة للطائرات الإسرائيلية، فاخترنا الجامعة رغم دمارها”.
لكن الجامعة لم تكن مكانًا آمنًا، فالقصف لا يهدأ، والخوف لا يزول. “نعيش على المساعدات، لا دخل لنا، وكل شيء أصبح غاليًا”، يضيف الزعنون. ثم يرفع صوته بنداء إلى العالم: “ارحمونا، أوقفوا الحرب، نريد فقط أن نعيش مع أطفالنا”.
الكتب تحترق بدل أن تُقرأ
سُهام نصير، أم لثمانية أبناء، وجدت في الجامعة ملجأها الثامن منذ بداية العدوان في أكتوبر 2023. تقول: “أُجبرنا على إحراق الكتب المتناثرة لتسخين الماء وطهي الطعام.. لم يعد للعلم مكان هنا”.
سُهام، مثل كثيرين، عادت إلى بيت حانون بعد الهدنة، قبل أن تتفاجأ مجددًا بعنف لا يعرف هوادة. تقول بأسى: “على الأقل الشهداء ارتاحوا من هذا العذاب”.









أبوة تحت الحطام
صبيح الخروات (35 عامًا)، اصطحب زوجته المريضة وطفله الوليد إلى الجامعة بعد رحلة نزوح طويلة إلى الجنوب. “لو كنت وحدي، لما غادرت في البداية، لكني أردت إنقاذ أطفالي من الموت”.
وضعت زوجته مولودها في منتصف الطريق من الجنوب إلى الشمال خلال فترة وقف إطلاق النار، لكنها لم تجد وقتًا للراحة أو التعافي. “نقضي يومنا في البحث عن الماء والطعام، لا وقت للنوم أو الحزن”.
قبر أو متر من الأرض
خليل عيسى نصير (52 عامًا) اضطر لمغادرة منزله في 18 مارس بعد أن نسفت قوات الاحتلال وقف إطلاق النار. مع أطفاله الثلاثة، وصل إلى الجامعة حاملاً خيمته فقط. “الاحتلال يعطينا مهلة قصيرة، ثم يبدأ في القصف”.
اليوم، يبحث عن متر واحد فقط: “مكان لننصب فيه خيمتنا، أو قبر نُدفن فيه”.
ووسط منع إدخال المساعدات منذ أكثر من ستة أسابيع، أصبح الحصول على الماء مثل العثور على كنز. “قطعوا عنا الماء والكهرباء والطعام”.
صور الدمار في حرم الجامعة الإسلامية بغزة لم تهدم الجدران فحسب، بل هزّت قلوبًا في أقصى الأرض.
قلوب أولئك الذين تخرّجوا من بين أروقتها، وحملوا علومها إلى العالم، وارتقوا إلى مناصب مرموقة في جامعات وهيئات ومنظمات دولية.
اليوم، يشاهد هؤلاء مكتباتهم تُحرق لتغلي بها المياه وقاعاتهم صارت مأوى لأطفالٍ يرتجفون من البرد والقصف.
ما أقسى أن ترى صرحك العلمي وقد أصبح مأوى للمشردين وما أوجع أن تُسحق ذاكرة علمية شاركت في بنائك الإنساني، بصاروخ لا يميز بين كتاب ودفتر، بين طالب وطفل.
ورغم أنهم وجدوا مأوى مؤقتًا، إلا أن الأمن الحقيقي غائب.
“الجامعة التي خرّجت الأجيال صارت أنقاضًا..
فماذا بقي؟”.
المصادر: