عالم التقنية

نزيف العقول: كيف تخسر أمريكا أعظم ما تملك لصالح الصين وأوروبا؟

في خضم الصخب السياسي والضجيج الإعلامي، يجري في الولايات المتحدة تحول صامت لكنه بالغ الخطورة، قد يحدد ملامح التوازن العلمي والتكنولوجي العالمي لعقود قادمة. إنها ظاهرة “نزيف العقول العلمية”، التي تشهدها أمريكا في واحدة من أخطر موجات هجرة الكفاءات في تاريخها الحديث.

انهيار غير معلن للجامعات الأمريكية

منذ عودة دونالد ترامب إلى المشهد السياسي، بدأت الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية تشهد تضييقًا غير مسبوق. قرارات بخفض التمويل بالمليارات طالت مؤسسات مثل: هارفارد، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وجونز هوبكنز. تلا ذلك تهديدات مباشرة بسحب الامتيازات الضريبية من جامعات كبرى بحجة أنها تروج لـ”أفكار معادية لأمريكا”، خصوصًا بعد سماحها للطلاب بالتظاهر دعمًا لفلسطين.

كما امتد الأثر إلى مجالات حيوية مثل أبحاث المناخ، الصحة العامة، وأبحاث المحيطات، حيث تم سحب التمويلات الفيدرالية، وتسريح آلاف العلماء والموظفين، بينهم باحثون أجانب كانوا يشكلون العمود الفقري للبحث العلمي الأمريكي.

تضييق ممنهج على العقول الأجنبية

لم يقتصر الأمر على التمويل، بل أطلقت إدارة ترامب حملة على تأشيرات الطلاب والباحثين، خاصة من يحملون مواقف مناهضة للاحتلال الإسرائيلي. تقارير موثقة تشير إلى توقيف باحثين داخل الحرم الجامعي، وإلغاء تأشيراتهم وترحيلهم، في سابقة أثارت القلق الأكاديمي العالمي.

الصين: الحاضنة الجديدة للعلماء الأمريكيين

في المقابل، فتحت الصين أبوابها لاستقطاب هؤلاء العلماء، ليس فقط بتوفير البيئة البحثية والدعم، بل بتحفيز مالي وتقني هائل. وفقًا لتقرير بلومبرغ، استقبلت شركة الذكاء الاصطناعي الصينية الناشئة Manycore مئات طلبات التوظيف من خريجي هارفارد وستانفورد. كما نجحت في ضم العشرات من مهندسي الذكاء الاصطناعي من وادي السيليكون، مستفيدة من تضييق أمريكا على هؤلاء العلماء.

أبرز هؤلاء العلماء “لين نان”، أحد ألمع العقول في تكنولوجيا تصنيع الرقائق، والذي ترك منصبه في شركة ASML الهولندية وعاد للصين ليقود فريقًا بحثيًا نجح في تطوير تقنية بديلة لتكنولوجيا الطباعة الضوئية EUV المحظورة أمريكيًا، ما قد يمكّن الصين من كسر الحصار التكنولوجي الأمريكي.

أوروبا تدخل على الخط

أما أوروبا، فلم تقف مكتوفة الأيدي. بل أطلقت حزمة استقطاب ضخمة بقيمة 600 مليون يورو عبر مبادرة “اختر فرنسا للعلم“، خصصت باريس وحدها منها 100 مليون يورو. الاتحاد الأوروبي من جانبه أطلق برنامج “Horizon Europe” باستثمار يفوق 93 مليار يورو حتى عام 2027، لاستقطاب العقول المطرودة من أمريكا وبناء ثورة أوروبية في الذكاء الاصطناعي والرقائق.

ترامب يدفع ثمن سياساته داخليًا وخارجيًا

في مفارقة لافتة، بينما تسعى إدارة ترامب لمحاصرة الصين بمنع تصدير رقائق Nvidia وAMD إليها، تتكبد الشركات الأمريكية نفسها خسائر بمليارات الدولارات. فقد أعلنت AMD أنها تتوقع خسائر بـ800 مليون دولار، بينما قدرت Nvidia خسائرها المتوقعة بـ5.5 مليار دولار نتيجة القيود المفروضة.

لكن الأدهى أن تلك القيود أصبحت حافزًا لتسريع الاكتفاء الذاتي الصيني، إذ أعلنت بكين عن استثمارات ضخمة تبلغ 1.4 تريليون دولار لتوطين الصناعات التكنولوجية الحساسة، تقودها شركات مثل Huawei، وDeepSeek، وManycore، لتطوير بدائل محلية لمنافسة ChatGPT وغيرها.

تفوق أمريكا العلمي في مهب الريح

ما يجري الآن لا يُعد مجرد تغير طارئ، بل انعطافة تاريخية. أمريكا التي تفوقت لعقود بفضل استقطابها للعقول حول العالم، أصبحت اليوم تطردهم أو تتخلى عنهم، لتلتقطهم الصين وأوروبا وتحوّلهم إلى محرك نهضتها القادمة.

إنه مشهد يعيد تشكيل خريطة القوى العلمية والتكنولوجية عالميًا، ويطرح سؤالًا جادًا:
هل بدأ العدّ التنازلي لانهيار التفوق الأمريكي؟

“لم تكن أمريكا عظيمة بعَدد صواريخها، بل بعدد عقولها واليوم، تلك العقول تُهاجر بصمت.”

خالد صافي

خالد صافي مختص في التسويق الرقمي ومدرب خبير في الإعلام الاجتماعي، حاصل على لقب سفير الشباب الفخري من وزير الشباب والرياضة التركية، حاز على جائزة أفضل مدونة عربية لعام 2012 من دويتشه فيله الألمانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Protected by WP Anti Spam
زر الذهاب إلى الأعلى