
على مدار أشهر الإبادة يمارس أهل غزة عبادة الاطمئنان كل يوم، بل كل ساعة، يعيشون تحت القصف، فوق الركام، في بقايا البيوت التي لم تعد بيوتًا، بل شاهدة على طغيان لا يشبهه طغيان، ودماء لا تجف، ودموع لم تجد كتفًا تستقر عليه.
ومع ذلك، يرفعون أعينهم نحو السماء، لا يطلبون سوى الطمأنينة التي طلبها إبراهيم عليه السلام حين قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾، لم يكن شاكًا في قدرة الله، بل ﴿قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾.
وهكذا نحن، على خطى الخليل، نؤمن أن سنن الله ماضية، وأن عذاب الظالمين واقع لا محالة، وأن الله لا يظلم الناس شيئًا، ولكنّا نشتاق إلى طمأنينة المشاهدة.. إلى رؤية العدل وهو يُقام، والظلم وهو يُهدَم، والطغاة وهم يُسحقون بأقدام المستضعفين الذين طال ليلهم واشتد قيدهم.
نؤمن أن الله ﴿يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وأنه ﴿يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾، وأنه ﴿يُرِيدُ أَن يَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾، فيجعلهم أئمة، ويجعلهم الوارثين.
نؤمن أن الظلم لا يدوم، وأن الله يمهل ولا يُهمل، وأن لعنة الدماء الزكية لن تذهب سُدى، وأن خلف هذا الجدار من النار والخذلان، هناك آية ستُكتب، ونصر سيتنزل، وعدل سيجتاح العروش التي قامت على القتل والنفاق.
لكننا نطلب من الله أن نرى ذلك بعين البصر قبل أن نراه بعين البصيرة، أن نُبصر كيف تُكسر شوكة الصهاينة، كيف تسقط أقنعتهم، وكيف ينهار ما ظنوه حصونًا من حديد، فإذا هو تراب تذروه صرخات الأرامل وأنين الأطفال.
نطلب رؤية هذه الآيات وهي تتجلى في دنيا الناس.. نطلب أن نراها نحن، بأعين أنهكها البكاء، وبقلوب أضناها طول الانتظار، ولعل في طلبنا هذا عبادة خفية.. عبادة اسمها الاطمئنان.
نشتاق أن نرى وعد الله في وقد تجلّى في مخيم جباليا، وخان يونس، والدرج، والشجاعية، والنصيرات، نريد أن نرى من خنقتهم الأنفاق، وقد خرجوا إلى النور أئمةً للعالمين، نريد أن نرى من أكلوا أوراق الأشجار، وعلف الحيوانات/ وقد صاروا أصحاب القرار، نريد أن نرى من ناموا على الحجارة، وهم يعلون المنابر، ويقودون الأمة إلى فجرٍ لا ليل بعده.
ليس الاطمئنان الذي يأتي من راحة البال أو سكون الجسد، بل الاطمئنان الذي يتغذّى على مشاهدة قدرة الله، ويشتدّ عند رؤية عدله في أرضه، ويهدأ حين يرى الباطل يُكسر، والحق يُعلو، ويُقال: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
إنه حنين إلى مشهد البحر ينشقّ لموسى، والطاغية يُبتلع في لُججه.
إنه شوق إلى لحظة النار تكون بردًا وسلامًا على إبراهيم، فيُدحرج الظالمون في أتونها.
إنه رجاء أن نرى المستضعفين، وقد أُخرجوا من ديارهم وأبنائهم، يعودون أسياد الأرض وأئمة الهدى، كما عاد رسول الله ﷺ إلى مكة فاتحًا بعدما أُخرج منها مطرودًا.
قد تقضي حكمة الله أن نُزهَق قبل أن نرى تلك اللحظة، وقد نفن جميعًا شهداء في هذه المجازر ولا يزال الباطل يتبجّح بنصر زائف.
ومع ذلك.. يبقى الاطمئنان.
حن نعبد الله في قمة القهر، بعبادة قد لا يُحسنها إلا القليل: عبادة الاطمئنان بالغيب.
عبادة أن ترى الحق وهو يُداس، وتبقى واثقًا أنه سيُبعث.
عبادة أن تموت قبل أن ترى الثأر، ولكنك تموت وأنت تؤمن أنه آتٍ.
عبادة أن تزرع النخلة، وأنت تعلم أنك لن تأكل من ثمرها، ولكن يكفيك أنك غرستها، وكفى بها شهادة.
فيا رب، إن كنا لن نرى النصر، فارزقنا حلاوة الطمأنينة بوعدك.. وإن متنا قبل أن تُذلّ الجبابرة، فاجعلنا من الذين قالوا:
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَـٰنِ﴾،
وضعنا لبنة في بناء الانتصار، وإن لم نر سقفه يُقام.
في غزة لا تصرخ الأفواه وحدها، بل تصرخ الجدران، وعيون الأمهات، وأنفاس الجرحى، وخرائط الأرض التي سُقيت دمًا.
ورغم كل هذا، يظل الصوت الغالب: “حسبنا الله ونعم الوكيل”.
تلك العبارة ليست دعاء فحسب، بل هي وثيقة عبادة.. عبادة الاطمئنان بأن الحق عائد، ولو بعد حين.
إن أهل غزة، وهم يقفون على حافة الموت في كل لحظة، يعلّمون العالم كيف تكون العبادة فعلًا حيًا لا مجرد ركوع وسجود، كيف يكون الصبر عقيدة، والثبات صلاة، والرجاء جهادًا.
يموتون وهم يعلمون أن هذه الأرض ليست نهاية المطاف، بل بداية الحكاية.
وإن لم يُكتب لنا أن نراهم يستلمون مفاتيح النصر، فسيحمله أبناؤهم من بعدهم، وسيقولون:
هؤلاء آباؤنا، ماتوا مطمئنين بوعد الله، وها نحن نُكمل المسير.
عبادة الاطمئنان، لا يدرك عظمتها إلا من رأى الظلم متوحشًا، فآمن أن الله لن يخذله.
ولا يعيشها بحق إلا من قال تحت الأنقاض، وتحت الصمت الدولي، وتحت قصف الطائرات: “ربّي إني مغلوبٌ فانتصر.”
وإن لم يُكتب لنا أن نرى النصر، فإننا نثق أن أبناءنا سيفتحون أعينهم على فجرٍ جديد، وسيرون الأرض وقد أشرقت بنور ربها، والحق وقد تربع على العرش، وسيذكرون أن وراء هذا النصر، رجالًا ونساءً لم يروا النتيجة، لكنهم وثقوا في الطريق.
تلك هي عبادة الاطمئنان.
فأحيوها.. وكونوا من أهلها.