عين على فلسطين

الكهرباء والحرب الصامتة.. وأشياء أخرى

البلد مولعة والناس ع شكة دبوس وكلها ساعتين زمن وتسمع خبرها الشركة
مثل قصص الأطفال تبدأ الحياة فصلاً جديداً بشروق الشمس، تنشر أشعتها على المدينة الصامتة فتدب الحركة في أوصالها، أبواق السيارات تزيح العصافير جانباً، وأبواب البيوت تتدفق مرة منها شلالات الأطفال لمدارسهم، ومرة تفتح ليقصد أرباب العمل أرزاقهم، وفي الثالثة ترى متأخراً يعدل من هندامه ويندب المنبه وبيده الأخرى يربط ما بقي من أزرار..

هذا عامل، وهذا موظف، تلك ممرضة، وهذه طالبة، أولئك يقصدون وزارة بعينها، وهؤلاء يعملون في مؤسسات مختلفة، ما يلبث المشهد ينتقى لنا من نقتفي أثره، ونلحظ الوجوه تتناقص حتى تكاد تختفي، ولا نرى إلا ذلك العامل، سعيد هو بعمله، ويبتهج كلما مارسه في جو من الرضا من الناس حوله، يمشي كغيره في الشوارع المستكينة، ويصل شركته الهادئة، يستلم مهام اليوم في حبور، وعلى القائمة مهام روتينية: قطع على شارع كذا ومنطقة كذا في ساعة كذا، و..
نعم إنه يعمل في شركة الكهرباء، ومهمته خدمة الناس بقطع الكهرباء عنهم، سعيد هو بخدمته للمواطنين، سعيد بقطع الكهرباء، سعيد بإحلال الظلام على مربع كامل، سعيد برضا الناس وعدم شكوى العالم..

الساعة 9:00 صباحاً

ركب سيارة الشركة التي تعرف وجهتها، وقف تحت عامود الكهرباء المركزي..

“نزّل السكينة.. خلصنا”
صوت من داخل السيارة  ينادي، نفذَ المطلوب باحتراف.. نظر حوله، ما أطيب الناس وما أجمل تفهمهم، لم يكد يسمع لأحدهم ركزاً، لم يتذمر أحد، لم يغضب أحد، لهذا هو سعيد، يواصل عمله بابتسامة أعرض..

“خلصتوا جدول القطع اليوم يا شباب؟”
تلك كانت من مديره..

جلس على المكتب لبقية اليوم لمواصلة عمله الروتيني..

رنين الهاتف يزأر بين الفينة والأخرى، وهو يجيب بهدوء:

“منطقتكم هادي حسب الجدول.. بعد 6 ساعات..”

“دار سيدك في المعسكر؟.. لا.. لا.. قطعنا عنهم الكهربا من شوية”

“البلد؟ لأ.. مش جاية اليوم كله، بكرا الساعة 3 الفجر وعليك خير”

كم هي ممتعة خدمة البشر، وإجابة طلبات المشتركين، كم هو رائع تفهم الناس وتعاونهم، لهذا هو يحب عمله، وهو سعيد بما يعمل..

في وزارة:

“هادول في الشركة بدهم حرق والله كلهم.. زي ما حرقوا دمنا طول امبارح يا راجل..”

“ع رايك والله لو يحكموني في شركة الكهربا لأعدمهم زي الحصن الإنجليز”

“طيب رايكو لمتى نظل في هالمشكلة اللي منكدة علينا عيشتنا؟”

“ما هو إنت مش عارف إيش صار فينا امبارح لما قطعت، هادا يا سيدي..

في مدرسة:

“والله يا أستاز ما أجت الكهربا عنا طول امبارح..”

“فش عندكو ماطور؟ ولا شمعة؟ الله يرحم لما كنا نقرا ع شمعة.. شمعة كنا نحل الواجب ونحضّر لبكرا.. ولما نخلص المنهج نعيده تاني.. مد إيدك بلاش دلع”

في مستشفى:

“مكلوبة ع الدنيا هادي المرة.. ماخدة شفتات دوامها مع الكهربا.. شو هالعالم؟”

“ياختي شو بدك فيها؟ غيرانة منها وللا من الكهربا؟”

“لا ياختي أغار من إيش.. أنا عندي ماتووور، وبعدين أنا لما تقطع الكهربا بأطلع على الـ…”

في مركز:

“يا راجل عفّنا.. إلي أكتر من 3 أيام ما تحممت زي الخلق، بأسخن المية ع الغاز من قلت الكهربا.. مين بيتحمل هيك يا عالم؟”

“ملعون أبو اللي جابوهم في الشركة.. الـ^&#% فيهم بينزل السكينة وقت ما بده ويحرق دمنا يحرق روح أبوه”

” شباب بدنا نخلص شغل قبل ما تقطع الكهربا.. اتركونا من الحكي الفاضي وخلينا نخلص.. قوموا يللا..”

“بس دقيقة أحكي لك هالشغلة امبارح قريتها عن الكهربا في اليابان، بيقولك..”

في شركة:

“نفسي أعرف شعور الموظف فيهم وهو بيسمع السب واللعن والشتم ينزل زي المطر عليه وعلى أبوه و ع اللي خلفوه.”

“مكفي دعوات الناس عليهم كل ما تقطع الكهربا مليون واحد بيحكي: يقطع إيدك يللي قطعتها تنشل وترتمي جنبك يا بعيد..”

“طيب احكي لي إنت إيش بتعمل لما تقطع الكهربا؟..

الإنترنت:

صفحة جديدة على الفيس بوك كل دقيقة تدعو المواطنين للخروج في مسيرات ومظاهرات ضد شركة الكهرباء تحت عناوين: الشعب يريد إصلاح شركة الكهرباء، بدنا كهربا نرفض الاستعباد، خذ حريتي ولا تسرق كهربتي، الكهرباء لا تزال في جيبي، رُدّ كابلي.

ثورة عارمة تجتاح مواقع التواصل الاجتماعي، والملايين من المتابعين في الفيس بوك وتويتر ويوتيوب، وآلاف المعجبين يحملون لواء الصفحة، تعليقات ساخرة، طرائف ونوادر، قصص وحكايات عن مشاكل مولدات الكهرباء والموت حرقاً، صور فظيعة ومشاهد مؤلمة، أحزان وآلام، سب ولعن وشتم.

جدال مستميت:
الرئيس هو المسئول ولازم يُحاكم، لا الحكومة هي السبب، الشركة “حرامية بنت %#$%”

أمموا الشركة أو أحرقوها كالساحرات، هذه لعبة سياسية قذرة، الشعب “يستاهل”، لا توجد مشكلة على الإطلاق، الناس تبالغ بعض الشيء.

الأهلاوي الحاقد سبب قطع الكهرباء، والثورة قادمة بالرغم من تأخر صدور ألبوم عمرو دياب، انفجار من التعليقات والتدوينات والتغريدات والمواضيع الجادة والساخرة، والمحادثات الشبابية والصبيانية، بين مرتادي الشبكة لساعات متواصلة.. حصرياً لمن عنده الكهرباء طبعاً..
و..

“قوم ولاك سيب النت واتصل ع شركة الكهربا اسألهم وقتيش ح تقطع بلاش تخرب التلاجة تاني.. لسه مليش أسبوع معمرها”

“سألتهم يابا قبل شوية ورد علي ابن الـ^&#%.. بيحكي لي بعد 6 ساعات على منطقتنا”

وفي بيت آخر:

“يامه خلليني أروح ع دار سيدي زهقت من الخنقة بدون كهربا من امبارح.. يمكن جاية عندهم في المعسكر”

“طيب اتصلي ع الشركة الأول واسألي المنكوب اللي حيرد.. في كهربا في المعسكر وللا لا؟”

في شارع:

“ولاك ليش بدك تروّح؟ حكيت لك فش عندكو كهربا، اتصلت ع الـ^&#% في شركة الــ#%^ حكى لي لسه بتيجي 3 الفجر”

في مسجد:

“خلينا قاعدين نقرأ جزء كمان ما هي هيك هيك الكهربا قاطعة في الدار، الله يكون بعونهم في الشركة من دعاوي الناس وظلم العباد.. الله يسامحهم على اللي بيعملوه فينا”

فوق سطح بيت:

“هو أنا وقتيش بأشوفه وللا بألتم عليه زي الخلق، طول الوقت بيتصرمح مع صحابه، طفش من قلة الكهربا.. إيش أعمل له يعني؟ أربطه في الدار ؟”

“مين سمعِك.. قطعت الكهربا بتقطع معها كل شي.. يقطع إيده قطاع النصيب”

شباب:

“البلد مولعة والناس ع شكة دبوس وكلها ساعتين زمن وتسمع خبرها الشركة”

“أفهم ليش ما نطلع نعمل مظاهرة ونحتج ع الشركة ونعمل اعتصام ع الباب لحد ما يشوفوا لها حل؟”

“لا.. احنا نعتصم عند التشريعي هو اللي يحلها”

“أنا بأقول كمان نوقف 10 شباب عند كل ترانس ولما يجي ابن الـ^&#% ينزل السكينة نقص إيده”

وهكذا تُمسي المدينة على مرجل يغلي وأزقتها على موعد مع انفجار بركاني ثائر، وشوارعها تترقب حرباً من نوع آخر لحظة خروج الناس غداً.. إن غداً لناظره لقريب..

***

و..
وكما تبدأ قصص الأطفال غالباً تبدأ الحياة فصلاً جديداً، حين تسمح للشمس بشروق جديد، تنشر أشعتها على المدينة الصامتة، أبواق السيارات، أبواب البيوت، الأطفال، المدارس، الموظفون، وذلك المتأخر الذي يُسرح شعره في الشارع وبيده الأخرى يربط ياقة قميصه..

هذا طالب وذاك محاضر، هذه طبيبة وتلك مربية يطلبون البكور ويرجون الرزق من رب كريم، تختفي الوجوه ويبقى المشهد مع ذلك المبتسم، نعم هو من يطلق الناس عليه في جدالهم ابن الـ ^&#%

سعيد هو بعمله، يمشي كغيره في الشوارع المستكينة، ويصل شركته الهادئة، يستلم مهام اليوم في حبور، وعلى القائمة مهام روتينية: قطع على شارع كذا ومنطقة كذا في ساعة كذا، و..
سعيد هو بخدمة الناس
ويبتهج كلما مارس عمله دون تذمر العالم حوله..
بلا أي ذرة من غضب..

خالد صافي

خالد صافي مختص في التسويق الرقمي ومدرب خبير في الإعلام الاجتماعي، حاصل على لقب سفير الشباب الفخري من وزير الشباب والرياضة التركية، حاز على جائزة أفضل مدونة عربية لعام 2012 من دويتشه فيله الألمانية.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. مش عارف الطبع اللي فينا هاد ،، بأحس العالم منافقين ، قدام وجهك بيضحكو و من وراك مقصات

    بنرجع وبنقول

    بدها الصبر

    _ على الهامش : نظام التعليقات عندك مرعب، يعني نفسي من زمان أعلّق بس خايف من كثرة المعلومات اللي بدك اياها مش هيك يا راجل ، لا وحاططلي كباتشي كمان ، عشان هيك ما بتلاقي حدا يعلق (عشان ما أكون قصيتك في ظهرك ههههه)

  2. يا الله أديش بياخدوا دعاوي
    بس نفسي أعرف ليش سعات بتقطع في 10 ثواني مرتين مثلاً
    بيكونو بيلعبو بالسكاكين مثلاً

    الله يساعدنا على الكهربا ال%&@#*

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Protected by WP Anti Spam
زر الذهاب إلى الأعلى