عقل وقلب

ماذا لو فقدك الصباحُ بين صفوف الساعين؟

علّمنا سليمان عليه السلام كيف نتعامل مع أصحاب الأعذار، ممن تخلّفوا عن الركب وغابوا عن المشهد وقت الحاجة إليهم، فقال بعدما تفقد الطير ولم يجد الهدهد بين الجموع: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأتِيَنّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: 21] وهو يتكلم هنا عن هدهد قد لا يبدو مهمًا دوره، ولا أثر له في صفوف جنوده من المخلوقات العظيمة، من الإنس والجن والمردة والعماليق.

ذلك النهج ليس ببعيد عن ذي القرنين الذي حدد سياسة تعامله مع الظالمين والمتجاوزين من شعبه ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا﴾ [الكهف: 87]

القاسم المشترك هو ورود كلمة (العذاب) على لسان كليهما؛ ذلك لأن عقاب العامل أو الجندي من الإنسان أو الحيوان أيًا كان موقعه على التقصير هو جزء من أداء الأمانة في العمل، وحفاظ على انضباط المجموع في العطاء.

وعند التأمل الدقيق في قصة الهدهد نرى أن الحكيم سليمان قدّم توجيهًا لكل صاحب منصب، حيث تدرّج في الاتهام، فاتهم نفسه أولاً: ﴿مَالِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ﴾ ثم اتهم الهدهد: ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ﴾ ثم تدرّج في العقوبة من الأشد إلى الأخف، فمن العذاب الشديد إلى الذبح، ثم إلى العفو الشامل لو يأتي ﴿بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾، ولا شك أن هذا التدرج من علامات الصلاح في الحكم الرشيد، حيث لا يترك الإنسان احتمالاً لإدانة نفسه ولا لإدانة غيره، وألا يترك نفسه للانفعال الشديد، ولكنه يهدأ حتى يصل إلى العفو.

وفي المقابل كان رد الهدهد متقنًا حين قلب الكِفة لصالحه، ودافع عن نفسه وعن سبقه الصحفي، حيث قَسّم خطابه بثقة عالية، بين عنوان مشوّق ومقدمة صادمة ومتن إعلامي متناسق، في تحدي عملي لعلم مولاه ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾، فقد أحاط بخبر لم يتناهى له علم سيده، فقد استخدم حواسه كلها، فشاهد وسمع وعرف اسم القرية، والملكة، ومكانتها، وعرشها، وعبادتهم للشمس، وحلل الموقف وأدرك خطأهم، ومارس بنفسه مهمة البحث والتقصي حتى جمع خيوط المعلومة كاملة، وغلّفها بقوله: ﴿بِنَبَأٍ يَقينٍ﴾ ثم نقلها بطريقة موجزة في بث حي ومباشر، تؤهله لأن يكون وزيرًا للإعلام وليس مجرد ناقل لخبر صحفي عابر.

هدهد يعرف ذلك كله ويتقنه ويمارسه بل ويوجّه البشر؛ ليبرهن لنا عظيم أثره ودقيق دوره في حضوره وغيابه حري بنا أن نجلّه كمعلم.

لذا..

إن غبت عن تباشير الصباح فلتكن ذا عودة تترك أثرًا يشهد لها الناس..

خالد صافي

خالد صافي مختص في التسويق الرقمي ومدرب خبير في الإعلام الاجتماعي، حاصل على لقب سفير الشباب الفخري من وزير الشباب والرياضة التركية، حاز على جائزة أفضل مدونة عربية لعام 2012 من دويتشه فيله الألمانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Protected by WP Anti Spam
زر الذهاب إلى الأعلى