دخل (خضر) مسرعًا، وأمسك بجهاز التحكم بالتلفاز، بينما كثير من الكلمات الصامتة تتطاير من بين يديه لا شفتيه، وهو يقلب الأزرار بأنامله بحثاً عن قناة بعينها، وكلنا يشاهد في تساؤل حائر عن غايته، لم يطل انتظارنا، فقد انتقلت الشاشة لقناة الأقصى الفضائية، وجلس راجعًا بظهره على الأريكة، وعلامات الانتشاء واضحة على ملامحه، يتابع الآن ألوان الشاشة الخضراء وهتافات أناشيد النصر التي تصدح، وحن علينا أخيراً بقوله:
* اليوم رح يعرضوا شريط شاليط ع الفضائية، بعد ما طلعوا الـ20 أسيرة.. هادا هو النصر بعينه يامه.. الله أكبر
رد الأخ الأصغر (فتحي) بتهكم واضح:
– انتو كل شي عندكو نصر، قتلتوا نص الشعب في الحرب وطلعتوا تضحكوا ع الناس، وتقولوا: انتصرنا، انتصرنا، خطفتوا جندي أهبل وأبوه أقرع وبتحكوا انتصرنا، وطلعتوا 20 أسيرة مقابل فضح مكان الجندي وبتحكوا انتصرنا.. ايش هالنصر هادا يا عم منصور باشا؟
أجابه وهو لا يرفع عينيه عن الشاشة أمامه كأنها مغناطيس ملتصق بهما:
* انت لسه صغير ما بتعرفش شو يعني سياسة، شو النصر، وشو الهزيمة، وكل حيثيات المقاومة والانتصار، وهيك أمور كبيرة عليك، اهدى شوية خللينا نشوف شاليط
ثم أضاف بسخرية:
* أنا متوقع يكون شاليط لابس بلوزة عليها شعار القسام ومعه راية خضرا، ورافع السبابة بيحكي: الله غايتنا والرسول قدوتنا.. ههههه
هنا جاء دور (جهاد) التي كانت تحيك بعض الملابس، لتقول:
– الصح إنه يطلع بالزي العسكري اللى خطفوه فيه، مشان تكون الصورة واضحة للعالم إنه هادا جندي مش مواطن عادي، إسرائيل نفسها من زمان تحذف الصورة اللى انتشرت لشاليط وهو لابس البدلة العسكرية.
علّق (فتحي) بتحد واضح:
– أراهن إنه من أول ما يطلع الشريط حيعرفوا اليهود مكانه في ظرف يومين بالكتير، يا عم هادول عندهم خبراء وموساد وناس قلق بتعرف كل حاجة وبيحللوا كل كلمة وكل حركة لحد ما يحلبوها
مرة أخرى أجابه (خضر) وهو يتابع الفضائية:
– ومين قالك إنه حماس طلعت الشريط بدون ما تتأكد منه؟ قرأت إنهم راجعوه 700 مرة قبل ما يطلعوه
* لا ألف وانت الصادق، هم لحقوا أصلاً يصوروه عشان يراجعوه 700 مرة؟ يادوب سمعوا بالصفقة من هين صوروه من هين..
– والله إنت المسكين، بتفكر إنه اليوم كان الاتفاق على هادي الصفقة، إنت كنت نايم في العسل لما كانوا شغالين عليها قبل رمضان، يعني أكتر من شهر وهم بيتفاوضوا عـ..
* أهلاً أهلا.. يعني عادي المفاوضات مع اليهود بأشوف، اشمعنى؟ وللا يمكن عشان اسمه عباس بتسموها مفاوضات عباثية..
دخلت الأم في هذه اللحظات وهي تحمل صينية الشاي، لتنهي الجدال بقولها:
– هيك انتو دايماً ما بتهنونا على شي، يامه الله يرضى عليكو هدّوا الطخ شوية خللينا نشوف ونسمع وبعدين حللوا يا قيادي انت وهوا زي ما بدكوا..
ثم وضعت الصينية وأخذت لها مكاناً بيننا وجلست تتابع حتى ظهرت الصورة الأولى للجندي المختطف ببزته العسكرية الخضراء.
فقالت متسائلة:
– هادا شاليط يامه؟ بأتذكر كان له صورة لابس فيها نظارة، وين راحت؟
رد (فتحي):
* شكلهم كانوا يأكلوه جزر لحد ما رجع له نظره تاني 6 ع 6 وأنا بأقول وين راح الجزر من البلد؟
لم يستمع أحد لتعليقه بينما أردفت الأم قائلة:
– معقول؟! كتر الله خيرهم، يارب زي ما نوروا بصره ينوروا له بصيرته، ويسلم على إيديهم يا رب
أضاف (فتحي) مبتسماً:
* والله على رأيك يا حجة.. يسلم ويتزوج مسلمة، ويخلف شلاليط صغار كمان وكمان.. ونعمل صفقات ورا صفقات.. على نمط أجيال ورا أجيال بتعيش على حلمنا
أما هي فأخذت تدعي بنية صادقة:
– يا رب ينولك بنت الحلال اللى في بالك يا شاليط يا ابن.. هي ايش اسم امه يا (خضر) يمه؟
رد خضر بعصبية واضحة:
* وأنا شو يعرفني؟! استني شوية نسمع الشريط يمكن يحكي اسمها..
بينما تعالت ضحكات (فتحي) وهو يقول:
– وأنا أبعث سلامي لأمي وأبي وأقول لهم أنني بخير في صحبة القسام، ألعب معهم (جندر) و(طلقت)، و(يهود وعرب) إذا هب على بالنا.. هههه
قاطعه (خضر):
ظريف.. وخفيف كمان.. بس يا شاطر.. اسكت خللينا نسمع شو بيحكي، وبعدين ليش لا، أكيد كانوا بيتعلموا منه كل الدورات اللي معه..
أومأ (فتحي) برأسه مستهزئاًً:
آه مبين عليه، ما هيو أبيض زي سنهاويد، وبيلمع وايديه زي خد العروسة ما فيه ولا خدش، دورات مين يا عم دورات انت؟ حكينا لكو أهبل.. جندي أهبل.. والله أهبل
تدخلت الأم متسائلة:
مبين عليه يامه إنه صحته ع قده المسكين، ضعفان عن أول على ما أظن.. صح؟
أجاب (فتحي) متهكما:
ههه.. يمكن بس عشان كان صايم رمضان، أو من كتر القيام .. وللا يمكن كان يخرج مع مشايخ الدعوة..
ردت الأم:
– والله يامه مبين عليه سنانه فُرُق وعينيه بُرُق
سأل (فتحي) مستغرباً:
– شو يعني؟
أجابت:
– يعني إنه ثعلب ومكار، شوف كيف حكى كلمة (المجاهدين) كإنه بيتمسخر من الكلمة، وبيهز براسه زي اللى مطمن إنه حيرجع لأهله وينتقم من كل اللى عرفهم من القسام
تدخلت (جهاد) بقولها:
قبل شوية كنت تدعي له يرزقه ببنت الحلال، وهلا بتحكي ثعلب مكار، حيرجع ينتقم..
أجابتها الأم مشفقة:
في الأول والله كان قلبي عليه وعلى امه المسكينة، شو بتتحسر عليه، وحزنت عليها وعلى حالها، بس لما شفته والله يامه حسيت انه يهودي خبيث وعينيه فيهم كلام غير اللى بيحكيه..
علّق (فتحي):
ييي علينا.. حكينا الكو أهبل، بيضحك لأنه عارف حالو ع التلفزيونات كلها طالع، ومبسوط بيفكر حالو بطل ، وهادول بيفكروا حالهم خاطفين واحد عليه العين وفرحانين ع حالهم
رد (خضر):
هادا هو اللى فالحين فيه، مش ممكن تفهموا ما بين السطور، ولا بتعرفوا شو يعني التخطيط بعيد المدى، ولا عندكم إستراتيجية ولا هدف واضح، ع البركات كل مشيكم.. مثلاً أنت عارف ليش اختاروا 14/9 يوم تصوير الفلم؟
حك رأسه متسائلاً:
امم.. مش عارف.. بس يمكن عشان يومها كان الاثنين، إجازة الحلاقين، والمصور بيشتغل حلاق بعد الظهر؟
أجاب (خضر) منتشياً:
لا يا فالح، 14/9 هو تاريخ تحرير المسجد الأقصى على يد صلاح الدين
علقت (جهاد) بثقة:
لا.. هذا ليس صحيحاً، تحرير المسجد الأقصى كان في 27 رجب 583 هجري الموافق 2 أكتوبر 1187م كتم (فتحي) ضحكته في تشف واضح، وهو ينظر لملامح (خضر) التي سرعان ما تبدلت، لكنه قال فجأة كمن تذكر شيئاً مهماً:
سمعت شو حكى (شاليط) عن هضبة الجولان وتدريبه هناك، هادا يعني انهم حققوا معه وحصلوا منه على معلومات كتير، وهي رسالة للصهاينة إنهم عرفوا كل شي منه خلال هادي الثلاث سنوات، هادا في حد ذاته نصر، وأي نصر.. الله أكبر ولله الحمد
هدأ (فتحي) هنيهة ثم سأل وعلامات التفكير تبدو واضحة على ملامحه:
طيب بالله عليك ما بدهم يطالبوا بالفلوس اللى دفعوها على أكله وشربه وملابسه؟ صحيح هو مين بيغسل له هدومه يا هل ترى؟ ومن وين الفلوس تصرف عليه؟ ومين سيحاسب على هاد الأموال التي تهدر؟ بلاش.. قوللي بس: هو بياكل زي المشايخ شاورما ورز ومناسف؟ وللا زي ما حكى أبو العبد، دقة وزيت وزعتر؟
أجابت الأم وهي تعيد ما تبقى في يدها من الشاي إلى الصينية:
هو صحيح مش مبين عليه انه بياكل حاجات دسمة، بس كتر الله خيرهم إنهم للحين محافظين عليه، وحاطينه بعينيهم عشان يفرجوا عن الأسرى والأسيرات..
هز (فتحي) رأسه بتحسر:
شو الفايدة يامه؟ ما انت شايفة أول ما طلعوا إلا 20 أسيرة ، أكتر واحدة فيهم باقي سنة على حكمها وتطلع.. شو الفايدة حتى لو طلعوا كل الأسرى؟ ما هم تاني يوم بياخدوهم تاني؟
أشارت (جهاد) بأصبعها وكأنها تنوه لنقطة غفل عنها جميعنا:
بس واضح انها مبادرة كويسة انه تكون النسبة الأكبر من الأسيرات من فتح، ثم حماس والجهاد.. وبقية التنظيمات الأخرى..
هز (فتحي) رأسه نفياً:
هادول اللى طلعوا معهم حسب القرعة، واللى لاقوهم في الطريق أسرع للخروج.. وأساساً الأسرى معظمهم من فتح..
ثم أردف قائلاً:
يا شيخ خلاص غير عن الفضائية، خللينا نشوف الرئيس وهو يستقبل الأسيرات في الضفة
(خضر) محتجاً:
مش حكيت لك من الأول، هادا هو الفالحين فيه، تنسبوا النصر لأنفسكم، وتسرقوا جهود غيركم، ولاك لسه من يومين طالعة ريحة فضيحة تقرير جولدستون.. والحين عامل لي حاله رئيس يستقبل أسيرات محررات..
بتحكي عن فلوس وأموال، وله من أسبوع مكلف دحلان خزينة السلطة أكثر من ثلث مليون دولار في قضيته اللي خسرها قدام الجزيرة ود. إبراهيم الحمامي..
بتحكي عن المحاسبة والمساءلة والسلطة بكل بساطة تسحب تقرير جولدستون اللى بيدين اليهود في حرب غزة، وقال إيش عباس بيشكل لجنة تحقيق في الموضوع..
بسيطة..
كلها أسابيع وتتم الصفقة الكبرى.. بعد صفقة الحرائر.. وخلليني أشوف منظره لعباس والبرغوثي واقف جنبه.. بيقوله: كش ملك
رد (فتحي) متهكماً بلهجة مسرحية:
صفقة الحرير؟!.. ما أشطركوا في الأسماء، حرب الفرقان، بقعة الزيت.. صفقة الحرائر.. والله يا عم هادا تعليم ناس كُبّاري..
آدينا قاعدين جنب الحيطة.. وبكرا بنسمع الزيطة..
فرجونا همتكوا وافتحوا المعابر يللا .. وللا دخلوا اسمنت للناس اللى اتهدمت بيوتها.. وللا وقفوا النهب الى شغال ع أبو ويدنوا بالأنفاق وتحت سمعكم وبصركم..
آدينا ماشيين ورا المقاومة.. نشوف تودينا لوين
أجاب (خضر) مفتخراً:
النصر أو الشهادة بإذن الله.. سبحان الله كلكم تحفظوها عن غيب أسطوانة مشروخة، معابر، اسمنت، أنفاق، أكل، شرب، كالأنعام.. همها على بطنها، ما بيفرق معها عزة ولا كرامة، ولا ممكن ترفع راسها يوم، في سبيل إنها تظل في التراب دوم، مش ممكن تسرقوا النصر منا، ولا ممكن أضيع يومي في جدال عقيم مع جدار منيع على الاستجابة، الرسول صلى الله عليه وسلم ما نفذ لكفار قريش أي من مطالبهم، مش لأنه ما بيقدر، بس لأنها عارف إنهم بيسألوا لغرض التعجيز فقط لا غير..
ومن الآن ولاحقًا كلامي معك لا يتعدى: “قالوا سلامًا”
سلامًا.
خضر وفتحي >> الرأي والرأي الآخر ..
🙂 ويمكن جهاد >> مستقل
بالفعل هذا هو حال غزة .. والجدال مع الطرف الآخر دائماً عقيم .. لقناعة كل طرف بما يفعله
نتمنى أن تكون ..صفقة الحرائر ..بداية لصفقات أخرى مشرفة .. تحرر فيها بقية أسرانا
بوركتَ أخ خالد على هذا المقال
دمتم بود
النّص هُنا لَيس فقط إلحام حرفٍ بِأخيه !
أو سَردٌ ليومٍ أفرِج فِيه عَن ذَاك الخَبيث.. إنّما هُو فِعلًا الحَال بِغزّة!
الفيديُو يُشعِرُنِي بالصّداع كُلما رَأيتُه ..!
شَكرَ الله لَكُم نَصًا يُقسِم بالحَقِيقَة وَبالصّدق يَحلف ..
وَكان الله معَكُم ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ خالد حفظه الله
تصوير رائع لما يحدث داخل القطاع
وشخوصات جاءت في محلها لتحكي حال الفلسطيني والصفقة التي يعتقد انها صفقة رابحة والتي نأمل أن تكون كذلك
ونتمنى صفقات شالطية قادمة أفضل مما هي عليه الان
كل الاحترام والتقدير
أخي الكريم تحية طيبة لك ولكل أهل غزة الكرام
اسمحلي أن أقتبس نص التدوينة لأضمنه في روايتي التي أعدها وأكتبها الآن ( حي الخزاعة ) والتي تحكي حكاية غزة من الأيام التي سبقت الحرب حتى الاعتداء على قافلة الحرية ..
للتواصل معي وأود ذلك بشدة
مجلة رؤية مصرية roaua.net
حسابي على الفيس بوك بإمكانك البحث عنه عن طريق البريد الإلكتروني
أنتظر تواصلك
خالد: السيد الفاضل/ أ. إبراهيم العدوي
شكراً لك على زيارتك الكريمة
وتعليقك الطيب على الموضوع
وإنه ليسعدني أن نال استحسانك
ولا مانع لدي من اقتباسه ونشره كما تراه مناسباً
وأرجو أن أحظى بقراءة هذه الرواية التي شوقتني لمتابعتها وقت صدورها