ذات الرداء الأزرق.. في غزة
ولأن التغلغل في أحوال الناس ديدن جُبلتُ عليه، فقد راعني منظر تلك الطفلة المكتنزة وحدها على سرير متحرك في واحد من أطول ممرات المستشفى، في هذا الوقت المتأخر، تشاكس زجاجات ماء فارغة يخيل إليها من سحرهم أنها لعب أطفال، ورغم أن موعد الزيارة قد شارف على الانتهاء، إلا أنني آثرتُ التريث لدقائق علّني أروي فضول عدستي، وما هي إلا ثوان حتى أقبلتْ فتاةٌ في خريفها السادس والعشرين بالرداء الأزرق المميز لعاملات النظافة في المكان، يتمايل جناحها الأيمن مع عصا تناهزها طولاً وفي الآخر تعلّق دلو ماء يثقلها وزناً، وعندما تُرجع إليها البصر كرتين ترى جبالاً من الهم تثقل كاهلها، وسنواتٍ من الشقاء تغير سحنتها بعناد، وتزيد ملامحها عمراً فوق عمرها، حتى ضمرت وذهب بريق عينيها، وكاد آخر رمق للحياة أن يغيض في وجهها..
إذن هذه هي أمها.. ونحن في وقت نوبتهما الليلية، ولا أحد في البيت ليعيل الصغيرة، فستقضي الليلة في العمل مع أمها، بلا مقابل طبعًا، فالمستشفى تدفع راتبًا شهريًا لواحدة منهما، وتحصل على الثانية مجانًا..
شرعتْ تدفق الماء على أرضية المكان، وكأنها لا ترى الناحل أمامها الغارق في آلاف من علامات التعجب والاستفهام.. وما إن أوشك الماء على مصافحة قدمي حتى أيقظتني من شرودي:
-“اوعى رجليك يا أوستاز”
ولأن صاحب الهم سريع التماهي مع من حوله، فسرعان ما نسج الحوار خيوطه بيننا، أجذب من أطراف الحديث ما استطعت إلى ذلك سبيلاً..
ما بين زوجها العامل سابقًا، “الرابض” في البيت حاليًا، وأبنائها الخمسة “كوم اللحم” الفاغري أفواههم على الدوام حولها، وعملها المؤقت “البطالة” في الخدمة العامة.. تطارد لقمة عيشها، وتحيك من جلدها سبل الحياة لكل هؤلاء.. فتشترك في جمعية مرة وتقترض من معارف مرات، وتسجل بياناتها في كشوفات المعوزين وذوي الحاجة والشئون الاجتماعية، ولديها حسابات وأسماء في بقالات منطقتها أكثر من حسابات التوفير لدستة من أثرياء العرب في بنوك سرية سويسرية، لكنها تحافظ على سدادها بالتقسيط المريح..
لا تفكر في بناء مسبح على شكل حرف U حول البيت، ولا تخطط لإحاطة حديقة المنزل بسور خشبي مطلي باللونين الأبيض والأخضر على التوالي، ولا يوجد في مساحات ذهنها مكانًا لجراج السيارة لتحتار في اختياره ما بين مقدمة البيت أو الممر الخلفي، ولن تطرد الأرانب والحمام من الأبراج فوق سطح بيتها لتشيد “الروف” بالقرميد الأحمر، ولا تعرف استخدامًا آخر للنافورة غير استحمام الأولاد فيها، وتخزين الماء لوقت انقطاعها..
لا تستخدم من الأجهزة الكهربائية إلا مروحة السقف المتهالك في بيتها، تعرف أسماء أجهزة أخرى كثيرة لكنها – حتى اللحظة – لم تحظ بفرصة استعمال أي منها، التلفاز والمكواة والمدفأة والغسالة والبراد والسخان معدات مدرجة على قائمة احتياجات منزلها، ولديها أمل في اقتنائها يومًا، رغم أن راتبها لا يزيد عن 120 دولار شهريًا، ولم تنعم باستلامه منذ أربعة شهور مضت، تسألني في نهاية حديثها وكلها رغبة أن أمنّ عليها بـ “نعم”:
-“ح يقبضونا اياهم كوم فول.. مش هيك بردو يا اوستاز؟”
ليتني أملك الكثير من “نعم” و “مؤكد” و “طبعًا” لأغدق بهم جميعًا عليها، وأنا أنقل خطواتي المتثاقلة بعيدًا عن المكان، فما عرفته من شأنها شحن رحلة عودتي بأطنان من الأسى على حالها وخبرها وماضيها ومضارعها، وقتامة مستقبل صغيرتها التي مازالت تظن الزجاجات الفارغة ألعابًا تزجي بها نوبتها..
نسيج عريض ممن حوصروا هنا يرفلون في معطف طويل أزرق، يضربون أبواب المستقبل بعصا مهترئة، كيما تفيض عليهم بحار الأرض بخيراتها، يشقوا من خلالها طريقًا يبسًا إلى بر أمان يستر حالهم..
وتستطيع أن تبني سقف باطون جديد لبيتها..
فيا ليتني ما تحدثت..
ولا وطأت قدمي ممراتها..
عفوا .. لكن وين من يسمونه( أمير المؤمنين )عنها وعن أمثالها من الأسر ؟؟!!
خالد: عن نفسي أعرف أن رسالتي في الحديث عنها ومساعدتها
ولا أجلس أنتظر الأمير لينتشلها وأمثالها من حالها المزري
لكم الله يا اهلنا في غزة نعم كل منا مسؤول عنها وعن امثالها اللهم كن لها معينا وسندا وارحم تقصيرنا اتجاه اخوتنا في غزة