الأستاذ مجدي صافي أبو السعيد في ذمة الله
أمشي في الشارع الرئيسي للمدينة، عن يميني الجامع الكبير وعن شمالي القلعة العتيدة، تبدو في هيئتها القديمة قبل الترميم، إذن نحن في زمن مختلف عن الآن، وجهت نظري صوب المسجد حيث كانت تقبع دكان جدي رحمه الله؛ علني أراه، لا عجب فقد انتقلت بالزمان إلى الوراء بطريقة ما، ولا أشد من اشتياقي لأن أرى شيئاً في هذا الزمن سواه، يطل وجه أبو السعيد وعمي الحاج فايز وكلاهما يسألني عن وجهتي وسبب لهفتي، فأجيب: “لأنني أعرف ما سيحدث لاحقاً”، سأل أبو السعيد عن مستقبله فأجبته على عجل:
“السكر سيبتر قدمك” فابتسم، ولم أر جدي فبكيت حتى استيقظت.
وخلال الأسبوع ذاته تدفقت الأخبار سريعة عن تدهور حالة مربي الأجيال أستاذنا الفاضل، مجدي أبو السعيد، ونقله من مستشفى ناصر للأوروبي، وبتر أصبع قدمه الأكبر، ثم جميع أصابعه ثم قدمه، وفي الجمعة الأخيرة قبل وفاته وصّى أبناءه بالاشتراك في أضحية لهذا العيد وذهب في إغماءة عميقة..
ولأنه خفيف الظل، ولأنه ما كدر صفو أحد قبل أبداً، ولأنه طيب اللسان صافي الجنان، جاء العيد وأمضى الناس في عائلتي مراسمه في فرح وحبور كما وصى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفجع أحدًا بانتقاله جوار ربه.
وفي مساء ثاني أيام العيد، تبدلت معدلات ضغطه والنبض، وهمّ ابنه الأكبر، سعيد، باستدعاء ممرض مناوب، لولا أن رأى جبينه يتفصد عرقاً، ثم فتح الوالد الحاني عينيه ونظر لنجله نظرة فهم الأخير مغزاها، فهز رأسه وأغمض عيني أبيه للأبد، وبدأ يتمتم بآي من القرآن الكريم، والدمع ينهمر شلالاً من مقلتيه فرقاً على رجل عظيم ما غاب عن صلاة الجماعة أبداً.
في ليلة اكتمل فيها القمر غاب عنا البدر، أ. مجدي نوع نادر وفريد من البشر، قلما يجود الزمان بمثله، سيفتقده الجامع الكبير ومسجد الشهداء ومسجد الغانم، ستفتقده مدارس خان يونس بل وزارة التربية والتعليم كلها.
كان يزور الأرحام في كل وقت وحين، ويعود المرضى والأصحاء، ولا يمكن أن يغيب عن بيت عزاء، لقريب أو بعيد على حد سواء، كلها عنده كانت مثل صلاة الفريضة في جماعة، لا يجوز التخلف عنها ولا عذر للتقصير في أدائها.
جميل الطلة، دائم الابتسام، حيي كريم، صديق وفي، ومستمع بوعي، ومنصت باحتواء، يجامل ولا يحابي، يود ولا يتملق، يعطي ولا يرائي، يحث على الخير بطريقة ذكية، ويسعى للإصلاح بروح مرحة، ونفس طيبة.
مر عليه في التربية والتعليم 32 عاماً، لم يتغيب فيها يوماً عن الدوام، ولم يتأخر عن خدمة الطالبات وتربيتهن وتوعيتهن لأمور دينهم ودنياهم والحياة من حولهن، والأحداث الجارية، قبل الخوض في ثنايا المادة العلمية الجافة.
كان وصفة سحرية لمن يريد النجاح بتفوق في المواد الأدبية في المرحلة الثانوية، كم من طالبة أصبحت الآن أماً أو جدة تتذكر هذا المعلم الفذ، والأب الحاني والأخ الأكبر وهو يعجن لهن خلطته العجيبة، بمقادير متفاوتة من علم وطرفة وفكاهة وثقافة ومعرفة وخبرة وخط جميل ودقة وسرعة وابتسامة صافية ويقدمها في 45 دقيقة تتمنى كل الطالبات ألا تنقضي أبداً.
أحكي ذلك يقيناً لأنني عاصرته واقعاً، وخبرته تجربة، في آخر عهد لي بعلوم الآداب كان لابد من زيارة مكوكية لوكره لأنهل من معينه، وكعادته لم يبخل علي بل أجزل.
مؤخراً وعد ابنته الوحيدة عائشة أن يشرح لها مادة الجغرافيا في الثانوية العامة العام القادم لتحصد الدرجة النهائية بسهولة، ولكن القدر لم يمهله للوفاء بوعده لها..
أبو السعيد في سطور:
- – ولد في 27/4/1955م بخان يونس.
- – حصل على ليسانس آداب وتربية شعبة جغرافيا عام 1978م.
- – التحق بالتدريس في مدارس خان يونس في 15/10/1979م.
- – عمل كمدرس لمادة الجغرافيا في مدرسة خان يونس الثانوية للبنات “فرحانة”.
- – متزوج وله من الأبناء خمسة: سعيد ومحمد وعائشة وخالد وحسين.
- – رزقه الله الحج لبيت الله الحرام مع أمه قبل وفاتها.
- – لم يتغيب يوماً عن صلاة الجماعة في المسجد.
- – لم يسجل حالة غياب واحدة في سجل الحضور والانصراف في الدوام منذ 32 عاماً.
- – توفي مساء الاثنين 7/11/2011م عن عمر يناهز 56 عاماً قضاها في أرض الرباط.
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)
إنّا لله وإنّا إليه راجعون
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وغفر له
وعظم الله أجركم
الله يرحمه ويجعل مثواه الفردوس الاعلى من الجنة .. ويصبر أهله وذويه ..
خالد:
اللهم آمين.. رحمه الله وأدخله فسيح جنانه
بوركت على مرورك الطيب
وشكر الله سعيكم
ان لله وانا اليه راجعون اللهم اسكنه فسيح جناته امين اللهم تقبل منا الدعاء
إن لله وإنا اليه راجعون ..رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جنانه وجمعه مع الانبياء والصديقين والشهداء.