ما الفرق بين القرية والمدينة في اللفظ القرآني؟
كلما قرأت سورة الكهف تعجبت حين وصف الخضر عليه السلام المكان الذي نزله هو وسيدنا موسى عليه السلام بـ المدينة عندما جاء وقت الفراق قائلاً: ﴿وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ﴾ بينما أخبرنا الله في بداية رحلتهما أنه قرية: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَيَا أهْل َقَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا..﴾
كيف يستقيم أن يصف القرآن نفس المكان باسمين مختلفين؟
ونفس الشيء حدث مع نبي الله لوط حين جاءته الملائكة وعلم قومه بأمرهم فهرعوا إليه: ﴿وَجَاءَ أَهْلُ المَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الحجر – 67] وصف مكان وجودهم ﴿المَدِينَة﴾ ولكن وعندما خرج منها لوط وصف مكانهم الله تعالى بالقرية: ﴿.. وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القَرْيَةِ التِي كَانَت تَّعْمَلُ الخَبَائِثَ..﴾ [الأنبياء – 74]
وتكرر الأمر للمرة الثالثة في سورة يس عندما بدأ الحديث عن أصحاب القرية بقوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ﴾ [يس – 13] ثم بعد لحظات قليلة تبدل اسم المكان إلى ﴿المَدِينَة﴾ في قوله: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ﴾
قال إخوة يوسف لأبيهم عن مصر ﴿وَاسْأَلِ القَرْيَةَ التِي كُنَّا فِيهَا..﴾ [يوسف – 82]
بينما وصف القرآن نفس المكان بالمدينة: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المَدِينَةِ امْرَأَةُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَّفْسِهِ..﴾ [يوسف – 30]
ولكن ما الفرق؟
هناك تأويل معتد به بين أهل التفسير بأن القرية والمدينة في القرآن بمعنى واحد، ولا فرق بينهما وإنما جاء الاختلاف من باب المشترك اللفظي.
في اللغة:
القرية من (قِرَى): وهي بمعنى الاجتماع والجمع والإمساك، وسميت القرية لاجتماع الناس فيها
المدينة من (مَدَن): بمعنى أقام وهي تجمع سكاني يزيد على تجمع القرية
في القرآن الكريم هناك دقة في اختيار المعنى يعتمد على عناصر عدة منها، وقت الوصف، منظور من وصف وهو يوضح الفرق جليًا بين القرية والمدينة
دقق معي جيدًا في المفهوم التالي:
القرية: تدل على توجه ثقافي وفكري وعقائدي واحد لكل المقيمين فيها
المدينة: لاتساعها وانتشارها تدل على اختلاف توجهات المقيمين فيها
اختلاف زمن الوصف:
نفهم أن القرية هي التي كان أهلها متفقون على شيء ما، وإن أصبح فيها تغير وصراع قلبت إلى مدينة، ولكن هنا لابد أن نضيف زمن الوصف ووجهة نظر من وصفها حتى يتحقق هذا الاختلاف، وعلى ضوء هذا التدبر يكون التفسير كالتالي:
- عندما جاء الخضر وموسى عليهما السلام للقرية لم نكن نعرف أن فيها صالحين، والأصل في أهلها الكرم وقرى الضيف، ولكن تبين أن أهل القرية بخلاء، ثم تبين لنا أن فيها رجلاً صالحًا له غلامين يتيمين، فأصبحت مدينة اجتمع فيها رهط كبير من البخلاء وغلامين يتيمين أبناء الرجل الصالح.
- وعندما خرج لوط عليه السلام من المدينة أصبحت قرية تعج بالذين يعملون الخبائث.
- وعندما جاء المرسلون إلى القرية كان كل من فيها كلهم على الكفر، حتى ظهر من بينهم من يدعو الناس لاتباع المرسلين فأصبحت مدينة فيها من يتبع الرسل ومن لا يتبعهم.
هذه الأمثلة تعطينا دلالة على اختلاف المسمى باختلاف زمان الوصف.
وجهة نظر من يصف:
بينما وصف إخوة يوسف مصر بالقرية لما لمسوه من كرم ضيافة واجتماع أهلها على ذلك من وجهة نظرهم، وكي يؤكدوا لأبيهم أن أهل القرية كلهم سيتفقون على جواب واحد لو سألهم، بينما الذي وصف المكان بالمدينة هو الله، لأنه يريد أن يخبرنا أن فيها يوسف النبي عليه السلام وهو موحد، وهناك نسوة المدينة وامرأة العزيز وجمع كبير من غير الموحدين.
وفي قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرَّجَالِ وَالنَّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الذَّينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا..﴾ [النساء – 75]
جاء الوصف للمكان بالقرية الظالم أهلها على لسان المستضعفين المظلومين وهم فيها ليصفوا الظالمين.
العذاب للقرية:
ما جاء العذاب إلا لقرية اتفق أهلها كلهم على الكفر:
﴿وَكَمْ مِّنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا..﴾ [الأعراف – 4]
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَّبِي إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ..﴾ [الأعراف – 94]
﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر – 4]
﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ..﴾ [النحل – 112]
﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا..﴾ [الإسراء – 16]
﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا..﴾ [الأنبياء – 6]
﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الأنبياء -11]
﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيِةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُون﴾ [الأنبياء – 95]
﴿فَكَأَيَّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِي خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا.. ﴾ [الحج – 45]
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ﴾ [الحج – 48]
وكذا ما جاء الخير إلا لقرية اتفق أهلها كلهم على الإيمان:
﴿وَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ..﴾ [يونس – 98]
فائدة التدبر:
وبهذا التدبر تفهم من المقصود في قوله تعالى:
﴿وَإنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ [الإسراء – 58]
دعني أتفق معك
في هذا الاستنباط كلها وأختلف معك قليلا
وهي أن الآية الأخيرة
هي التي لخصت
كل الآيات المذكورة سلفا
وهي أن كل القرى مافيها خير سوى قرية يونس لما آمنوا ونفعهم إيمانهم
وبقية القرى لم يكن فيها خير وفيها الجهل والفساد والكفر والنفاق على مدار التاريخ
كقوله تعالى (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله)
دائما القرى هي تكون محل وأماكن وجود الجهل والفساد والنفاق لأنها بعيدة عن وجود العلماء والدعاة
وأما المدينة فهي فعلا الذي يتجاوز عددها عدد القرية من حيث الاتساع نعم ومن حيث العدد السكاني
وأيضا هي التي تتنوع فيها التوجهات والثقافة والعلم
وأهل الايمان وأهل الكفر ولكنها أكثر صلاحا من القرية وأكثر اتساعا
وربما حينما وصفت بعض المدن تارة قرية وتارة مدينة
لعله كان يقصد بها تعبيرا مجازيا عن فسادهم وكفرهم فالتناسق اللفظي هناك مع الفساد والكفر يتناسب معه القرية كونها ضيقة لضيق ساكنيها بالكفر والنفاق وضيق صدورهم عن عدم تقبلهم لرسالة ربهم
وهناك آية ذكرها الله (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون)
فهذه الآية تدلل صحة ما ذكرتموه حقا أن المدينة تتسع للصالحين وأهل الكفر والفساد
جزاكم الله خيرا ونفع الله بكم وبعلمكم الأمة لفتة مهمة
أنا أحب الاستنباطات القرآنية شكرا لكم جزيلا على هذه الفائدة القيمة