لأن الهِبات تُمنح في الخلوات
لما اعتزل إبراهيم عليه السلام أهل الباطل وشركهم وهب الله له نسلاً صالحًا وجعل فيه النبوة، وحمل لقب (أبو الأنبياء)، وما كان ذلك إلا باعتزال الباطل والخلوة مع الله.
﴿فَلَمَّا اعتَزَلَهُم وَما يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلنَا نَبِيًّا﴾ [مريم: 49]
العطاءات والهِبات تأتيك تترى عندما تخلو برب الأرض والسماوات.
لم تكن مريم بنت عمران ترى الحياة إلا خلوة مع المحبوب، فحصرت حياتها في محرابها تناجي ربها، ولا ترجو انفكاكًا من خلوتها، فجاءها الطعام والشراب والرزق سعيًا؛ لدرجة جعلت نبي الله زكريا يستفسر عن مصدره في دهشة لا تخلو من انبهار: هل تحقق خلوة مع الله كل هذا العطاء؟
﴿.. كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيها زَكَرِيَّا المِحْرابَ وَجَدَ عِندَها رِزقًا قَالَ يا مَريَمُ أَنّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37]
حينها أدرك زكريا أن الهبات تُمنح في محاريب الخلوات، فدعا ربه طالبًا ما كان يظنه معجزًا، فهو الشيخ الكبير وامرأته العاقر أنّى يكون لهما ولد؟
لكنه كان يثق في مناجاة ربه وعطاياه، وفي عظيم أثر الخلوة وفعلها..
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لي مِنْ لَدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: 38]
وجاءته البشرى محملة بأضعاف مما كان يرجو ويأمل، ليس مجرد صبي يملأ حياة عجوزين فرحًا وسرورًا، بل بسيّدٍ ونبيّ من الصالحين، والأهم أن مكان البشرى كان في ذات الخلوة في المحراب، وهو قائم يدعو ويبتهل..
﴿فَنادَتهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلّي فِي المِحرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 39]
معجزة من نوع آخر تحققت لفتية الكهف عندما اعتزلوا الناس وخلوا إلى الله، آووا إلى كهف للقاء من نوع خاص يجمعهم بمحبوبهم وكلهم شوق لعظيم عطاياه، ولم يدر بخلدهم كيف سينشر الله رحمته عليهم، وكيف سيهيئ الأمور بقدرته، لكنهم بقدرة الله آمنوا.. فسعوا إلى الخلوة، وتحقق لهم أعلى من مرادهم بأن أصبحوا مثلاً في الثبات على الحق إلى يوم الدين.
﴿وَإِذِ اعْتَزَلتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِّرفَقًا﴾ [الكهف: 16]
اعلم أن أعظم الناس تحقيقًا لأحلامهم هم الذين يسهرون على حراستها في خلوة الليل..