عندما مات الموت في فضائنا الرقمي
كنت صغيرًا عندما عاصرت أول حالة وفاة في عائلتي، المتوفاة كانت خالتي الشابة اليافعة مريم، بصعقة كهربائية، ورغم أن العزاء كان في عائلة أمي إلا أن الحزن سرى بين أفراد عائلة والدي، وأكاد أزعم أنه تجاوز حيّنا ليخيّم على مدينتنا، فقد انقطعت الكهرباء عن المدينة طوال اليوم في ظاهرة غريبة من نوعها حسب معايير ذاك الزمن.
يومها بدأت أتعرف رويدًا رويدًا على الموت حين رأيته يستقر في لبس جدتي الأسود ونحيبها، وفي دموع أمي وشرودها، وفي لحية خالي وطولها، وفي وفود المعزّين الذين اكتظ بهم بيت العائلة وديوانها وشارعها..
العادات في ذلك الزمن كانت مقدسة، كان من المتعارف ألا يذهب أقارب المتوفّى إلى العمل، وألا يشاركوا في الأفراح في محيطهم، وألا يتناولوا من الطعام إلا ما يبقيهم أحياء، واحترامًا لمصابهم كانت العائلات المجاورة تعدّ الزاد لهم، وتؤجّل مناسباتها السعيدة لشهرين أو إلى الأربعين على الأقل، حتى تشغيل التلفزيون والفيديو والكاسيت وقت العزاء كانت أفعالاً من المحرمات.
كان الموت عزيزًا، وفراق الأحباب مناسبة يتعاطف معها كل من سمع بها بغض النظر عن درجة صلته بها، مشاعر تهتز، وحالة تتبدل، وعيش مستبد في التفاصيل حتى تكاد تظن أن المكلوم لن يخرج من الحداد يومًا..
لا أدري هل أخطأنا على مدى الزمن حين عرّضنا أنفسنا لحوادث الموت من حولنا مرات عديدة حتى فقد هيبته؟
أم وقعنا في فخ الإعلام حين ربط أهمية الخبر بعدد الموتى في نشرات أخباره، وعوّدنا ألا نتأثر بحالات الموت المتناثرة طالما أنها مازالت تتنقل بين خانتي الآحاد والعشرات؟
أم أن مواقع التواصل بددت ما بقي من شعورنا بتلك الهالة القدسية حين شاركنا الموت على هيئة أرقام تتزايد في الكوارث والحروب لنحصد مئات وآلاف الاعجابات والتعليقات؟!
لا أدري ومازلت أبحث.. من المسؤول عن تهميش الموت وجعله خبرًا عاديًا يتسوّل (إعجابًا) في سطر تعزية على صفحة في فضاء رقمي؟