عبارات وعبرات

بيوتنا لم تكن قصورًا..

بيوتنا لم تكن قصورًا لكنها كان متخمة بكنوز من الذكريات والضحكات والمشاهد المحفورة مع خربشاتنا الصغيرة على جدرانها، وبصماتنا العابثة في أركانها، لا أدري لماذا كانت تشكيني أمي لأبي في كل مرة أرسم على الجدران بخطي الجميل، أو عندما ألعب في أزرار المروحة وأخرجها من مكانها، ولم أعرف وقتها لماذا استغنى أبي عن المروحة العمودية واشترى لنا أخرى معلقة في السقف بدلاً منها؟
ولم أعرف لماذا عدّل مكان مقابس الكهرباء في البيت كله لمكان أعلى، صحيح أن الزر أصبح بعيدًا عن متناول يدي، لكنني عرفت كيف أقف على كرسي وفي يدي سكين لأفتح هذه العلبة السحرية؛ بغية أن أروي فضولي وأن أعرف ما بداخلها، وكيف تنير الصالون بلمسة؟

لم أفهم لماذا كانت أمي تغضب مني في كل مرة تنقطع الكهرباء عن البيت نتيجة لعبي في المقابس!
ترعرعت هنا وكنت أسابق إخوتي على من يحظى بالجلوس إلى جوار أبي حول طاولة الطعام؟ ومن يحمل الأواني وابريق الماء البارد مع أمي؟ ومن يعرف مكان الملاعق الجديدة المخبأة للضيوف؟ وأينا سيختبئ في حضن جدتي وهي تقص علينا حدوتة قبل النوم؟

هنا كنا نتقاسم دولاب الملابس والملابس وغرفة النوم والأثاث والرسوم المتحركة على التلفزيون، وكنا نتوارث كتب المدرسة ونتشارك الأصدقاء والأحلام والألعاب والقصص والروايات..

كان بيتنا هو الحضن الذي يضمنا طوال اليوم بلا كلل، ويمدنا بطاقة متجددة ويشحن أوصالنا بدفء عميق، تخيل أننا عندما كنا نبيت في بيت جدتي لأمي ليلة نشتاق لحضنه، فنسرع إليه كأنه مغناطيس عملاق يجذبنا إليه كل صباح.

كانت أفراح الزفاف قديمًا تقام فوق سطح بيتنا، وتعج ساحته بالمحتفلين، كما كانت غرفة الضيافة الواسعة في الطابق الأرضي تستقبل وفود المؤازرين في المناسبات المختلفة، وكان جدي يجتمع في ديوانه برجال العائلة من بني عمومته كل مساء حول كانون النار في ليالي الشتاء.

في سنوات الحصار كان الحصول على الأساسيات في بيتنا صعبًا، كنا نشتري الماء العذب، ونداوم على تعبئة ماء الاستعمال في براميل أعلى سطح البيت، ونضطر لتسخين الماء عند الاستحمام، وكانت أمي تنتظر جدول الكهرباء ثماني ساعات في اليوم أو الليل لتغسل الملابس وتخبز العجين، وتشحن بطارية الإنارة (اللِّدات) والإنترنت..

تفاصيل حياتنا في بيوتنا كانت زاخرة بالأحداث والأشخاص والذكريات المتراكمة مع الأيام التي عشناها في كنفها، خاصة وأننا مثل معظم عائلات مدينتنا نتمدد بشكل رأسي في بيوتنا، وكلما زاد عدد الأفراد زادت الذكريات تشعبًا وجمالاً..

كبرنا، وتزوجنا وصار لكل أخ منا بيت يؤويه وعائلة نووية يهتم لأمرها، لكن ذلك لم يشغلنا عن أوبة إلى بيتنا الأول كلما شدنا الحنين وانطفأت طاقة العطاء في قلوبنا، وهو لم يبخل علينا بحنانه في كل مرة نرمي أثقالنا على صدره، فيحتوينا ويمدنا بترياق متوازن من إكسير الحياة ليعيدها لنا بلا شوائب.

صحيح أن الأزرار أصبحت في متناول يدي اليوم، ولا فضول عندي لفتح مقبس الكهرباء لأعرف كيف ينير المكان، ولن أعبث في أزرار المروحة ليس خوفًا من أمي التي سوف تشكيني لأبي، فقد رحل والدي إلى رحمة الله، وهو لا يعلم أن مروحة السقف قد وقعت (أقسم لست أنا من فعلها يا أبي) وأن الجدران ومعها خربشاتي قد اهترأت، وأن الكتب والقصص والروايات والشهادات كلها احترقت، وتهالك دولاب الملابس والملابس والأثاث وغرفة الطعام والأواني وملاعق الضيوف، واختفت الأصوات والضحكات التي كانت تعبق المكان وتملأ غرف البيت وطوابقه، بعدما فقد البيت قدرته على البقاء، ونزع الاحتلال منه إكسير الحياة وتركه في برزخ بلا موعد لاستخراج شهادة وفاته رسميًا، أما من بقي من إخوتي فقد سكنوا العراء وبنوا لهم بيوتًا من قماش وخشب، وسمّوها خيام النازحين..

خالد صافي

خالد صافي مختص في التسويق الرقمي ومدرب خبير في الإعلام الاجتماعي، حاصل على لقب سفير الشباب الفخري من وزير الشباب والرياضة التركية، حاز على جائزة أفضل مدونة عربية لعام 2012 من دويتشه فيله الألمانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Protected by WP Anti Spam
زر الذهاب إلى الأعلى