عبارات وعبرات

العلو الأخير: سُقوط القلعة وخراب الديار

في صباح السابع من أكتوبر 2023، ارتجّ الغيم وانشقّت الأرض عن رجالٍ ما خانوا العهد. تسللوا عبر السلك الزائل كما ينسلّ الضوء في كُوّة الليل، وتوغّلوا مئات الكيلومترات في أرضٍ كانوا يعرفونها أكثر من جغرافيا صدورهم.

هناك، في قلب المغتصب، أُبيدت فرقةٌ صهيونية كاملة، وقُتل أكثر من 1200 جندي من الذين كانوا يطوّقون غزة مثلما يُطوّق الخوف صدرًا شجاعًا.

سُمّيت العملية بـ”طوفان الأقصى”، وكان قائدها ابن الأنفاق، ابن الألم، يحيى السنوار، ونادى في صبيحة ذلك اليوم القائد الظلّ، أبو خالد الضيف، بنفيرٍ شامل، يطلب من الأمة أن تهبّ كما هبّت أمواج البحر حينما يُغضبها القمر. كانت الفرصة مهيّأة، والطريق نحو القدس معبّدة بدماء الأنبياء، ولكنّ المدى خانه الركب.

تحركت الصليبية المعاصرة، تقودها أمريكا، وأرسلت بوارجها ترعد في المتوسط، وجاء وزراؤها يحملون التهديد في كفّ، والدولار في الكفّ الآخر. هدّدوا كل جوارٍ وقريةٍ وقصر: “من انضمّ لطوفان الأقصى، أغرقناه في طوفان الجحيم”.

استكان الجوار، وتخشّبت الرقاب، وسُدّت المعابر، وقُطعت السبل، وبدأ العرض الدموي يُبثّ على الهواء مباشرة، كأنها مباراة كأس عالمٍ في الرعب، لكن بلا جمهورٍ يحتجّ، فقط مشاهدون يضعون وجوههم خلف الشاشات ويتبادلون الأدعية واللوم.

حصارٌ خانق، ومجاعةٌ تشبه نهاية العالم. قُطعت الكهرباء، وجفّت الآبار، واحترق الهواء.. وعاش الناس مجاعة حقيقة لدرجة أنهم أكلوا طعام الحيوانات، والحيوانات.

ثم دخل العام الثاني، العام الذي سُحقت فيه بقايا المقاومة، بالتعاون مع الأنظمة المتواطئة، واغتيلت قياداتها تباعًا، ومع كل اسمٍ يُعلن اغتياله كانت تُغتال معه قطعة من كرامة الأمة.

في أكتوبر 2025، رُفِع العلم الإسرائيلي فوق آخر بلاطة في غزة، بعدما زال كل ما هو فلسطيني عن الخارطة. قُتل من قُتل، وهُجِّر من هُجِّر، وفُقِد من فُقِد، وسُحقت تحت الركام ذاكرة شعبٍ كامل. لا صوت يعلو إلا نباح الكلاب الضالة، تبحث في الأزقة عن جثث لم يتعرف عليها أحد. لا مدارس، لا مساجد، لا أسواق. فقط ركامٌ وريحٌ وصمت.

الماء مالح، والهواء أسود، والموت حاضرٌ في كل شقٍّ من الجدار.

كانت الطيور قد هجرت غزة قبل الناس، وكأنها كانت تعرف المصير.

وفي عواصم العرب، اجتمع المتخاذلون في مؤتمرٍ عزاء، يذرفون دموع التماسيح على شعبٍ أُبيد، ثم يرمون اللوم على مقاومته “التي ورطته في معركة خاسرة”. ظنّوا أنهم بذلك ضمنوا استقرارهم، فكان الرد من العدو سريعًا: “من أنهى غزة، يستعيد شرق النهر، ويهدم قبة الصخرة، ويؤسس للهيكل”.

وهكذا، تنازل ملك الأردن عن ضفته الشرقية، وتراجع حاكم مصر خلف النيل، وانهار حاجز سيناء كما انهارت قلاع الذاكرة. أنطاكيا سُلّمت بلا مقاومة، والحجاز قُسّم بين من رضوا بالصهينة ومن باعوا التاريخ.

أما الجيوش العربية التي طالما تغنّت بالعقيدة والكرامة، فقد ذابت في الرمال. سقطت ست عواصم عربية في أقل من ستين يومًا دون طلقة واحدة، كأنما غزة كانت السدّ الوحيد الذي يمنع هذا الطوفان، فلما تهدم، أغرق الكل.

وفي أواخر 2030، جلس بعض الشباب الثائر في إحدى زوايا الأنقاض، يتناقلون صورًا قديمة لرجالٍ من غزة، ملثمين، يحملون أرواحهم على أكفهم ويقنصون الغزاة من بين الركام. بكوا بحرقةٍ وهم يرددون: “كنا معهم يومًا، عشنا في زمن هذه الأساطير ثم خذلناهم.. كانت لنا الفرصة، فخسرنا فلسطين وخسرنا أنفسنا.”

هم ثلة ثائرة مختبئة في الكهوف على أطراف المدينة بينما يخدم أبناؤهم في جيش إسرائيل العظمى، يدينون بالدين الإبراهيمي، الديانة الرسمية للمنطقة، ويحملون البنادق التي وُجِّهت بالأمس لآبائهم، ولا يستطيعون حتى البوح بما جرى.

وهكذا، لم يبق من فلسطين إلا سطورٌ في الذاكرة، وقصائد لا تُغنّى، وأشلاء حلمٍ لم يُكتب له الحياة، والأمل معقود بجيل جديد يعرف قدر مقاومته.

خالد صافي

خالد صافي مختص في التسويق الرقمي ومدرب خبير في الإعلام الاجتماعي، حاصل على لقب سفير الشباب الفخري من وزير الشباب والرياضة التركية، حاز على جائزة أفضل مدونة عربية لعام 2012 من دويتشه فيله الألمانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Protected by WP Anti Spam
زر الذهاب إلى الأعلى