ذكريات من زمن الحرب
افتحوا أعينكم عن آخرها..
احفظوا التفاصيل وأدق ما يرد فيها..
سجلوا دوّنوا وثّقوا كل ما يمر بكم الآن..
لا تخجلوا من خوفكم ولا تُخفوا مشاعركم ولا تجملوا أخطاءكم وتبرروا عيوبكم..
احفظ تفاصيل البيت ولون جدران الغرف وعدد ألواح الزينجو ونوع الريسيفر وعدد النوافذ وباب المطبخ الذي مازال يصدر صريرًا، وأطقم كاسات الشاي والقهوة، والقميص الذي أفسده الحبر بعدما نسيت القلم في جيبها العلوي بلا غطاء..
تذكر من كان يصنع لك المقالب، وحديثكم حول مائدة الإفطار في رمضان ومن كان دومًا يحتج حين لا يجد الفلفل والمخلل والحمص والجرجير والفلافل بالحجم الكبير على قائمة الطعام، تذكر من كان يأتي متأخرًا، تذكر إصرار من كان يصلي قبل الإفطار، والجدال بين الأخوات حول من عليها الدور في جلي الصحون، ومن كانت تسابق لامتلاك الريموت أولاً لتقلّب القنوات على مزاجها..
احفظ ملامح إخوانك المتفوقين والحافظين لكتاب الله والمشاغبين، وآخر العنقود والكسلان والعصبي، وجلسات النقاش بينكم التي كانت تنتهي بطوشة، تذكر خدود الصغيرة بنت أخيك المكتنزة، وصوت ابن الجيران المستفز، وبائع الحليب الذي لا يتأخر عن السادسة، وذلك الذي يبيع المفرقعات بعد المغرب أمام البيت، والعجوز الذي تسمع خطواته كل فجر يقول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» لا تدري هل يريد بصوته العالي أن يوقظ الناس أم يحاول أن يزيل عن نفسه الخوف من ظلام الليل؟
تذكر البيارة وعدد الأشجار فيها، وتلك النخلة التي ما إن أثمرت حتى رماها الأطفال بالحجارة، وشجرة الجميز التي حفرتَ عليها وصديقك حروف اسميكما، والشارع الذي لعبت فيه كرة القدم بالجوارب السميكة بعده شدت أمك أذنك اليمنى وحذرتك ألا تعود لمثلها..
تذكر واشحن كل خلية من خلايا مخك بذكرى أو حديث أو حكاية..
تذكر تلك الحياة واحفظ تفاصيلها جيدًا..
لأنها ستستحيل كنوزًا جميلة ستحكيها لأحفادك حولك، بعدما قصف الأعداء البيت والبيارة والنخلة وشجرة الجميز والشارع والمسجد ودمروا أزقة الحارة، وقتلوا بائع الفلافل والحمص، وبائع الحليب، والعجوز الذي كنت تسمع خطواته وصديقك والجار وزوجته وابنه المستفز، وأخاك المشاكس والمشاغب وحافظ القرآن وآخر العنقود والعصبي، وأخواتك وأمك التي كانت تشد أذنك عندما تلعب كرة القدم بالجوارب السميكة..
اغتالوا عالمك وتركوا لك هذا الجسد المسجى الفاقد لكل معالم الحياة..
المسكون بكل الذكريات التي انتصرت على النسيان وأبقتك حيًا!