لأن من حوسب عذّب
تؤرقني مثلما تؤرقك فكرة الوقوف أمام الله للحساب يوم القيامة، الخوف من الحساب والعقاب وارد، لكن قلقي الأكبر في المثول أمام خالقي وهو يعدّد على مسامعي نِعمه، ما علمتُ منها وما لم أعلم، وهو يعاتبني ويمنّ عليّ، وهو يتفضّل بكرمه..
أقف بين يديه خجلاً وأرى الصورة من منظور سماوي، أنا في المحور وكل الكون مسخّر حرفيًا لأجلي أنا خليفته في الأرض.
ها هو ذا بجلاله يكشف لي الحجب؛ لأرى لطفه والأقدار التي ساقها لي في حياتي، والعلاقات التي استحالت لشبكة عملاقة معقدة متعددة الأطراف وكلها تؤول لصالحي ولأجل راحتي، وكنت أجهلها.
يقول لي: هكذا فعلتُ حتى يعرف أبوك أمك، ثم نقلتك من ظهره لبطنها لظهر الأرض، وألقيت محبتك في قلبيهما، وآخرين من دونهما، ورعيتك صغيرًا في كنفهما..
على مدار حياتك كلها كنت أحافظ على حركة أنفاسك، وأرقب دقات قلبك ومسار الدماء محملة بالأكسجين في عروقك، أشرف بذاتي العليّة على كل خلية وهي تنمو جنبًا إلى جنب مع بقية خلايا جسدك، أقبض روحك حين منامك وأردها إليك عند يقظتك ولا أنام، أرعاك في وقتٍ تكون فيه أضعف ما تكون، وأسوق لك الرؤى الجميلة في منامك كيما تبدأ غدًا مع إشراقة الشمس التي خلقتها لتنير لك يومك، والأرض التي جعلتها بساطًا تحت قدمك، والسماء التي تظلك والرياح التي تلاطف تقاسيم وجهك.
خلقتك وجعلتك خليفتي، رعيتك ووهبتك الكون، صرفت عنك ذلك المرض دون أن تدري، وحفظت عينك من ملايين الجراثيم قبلما تعرف بوجودها، وسقت لك الرزق مع عمرو وزيد وغيرهما، وهيأت لك العمل عند صديق وقريب وغريب، وأجزلت عليك بالخير في كل غدوة ورواح، وهبتك عقلاً يستخرج كنوز السماء والأرض، وفوقها سخرت الملائكة لحفظك.
وقبل ذلك كله أرسلت لك محمدًا ﷺ رسولاً ونبيًا، ورضيت لك الإسلام دينًا، وشرعت لك منهجًا وحياة صالحة، فماذا تراك صنعت؟
هل تذكر يوم رفعت إليّ يديك داعيًا رحمتي، طالبًا رزقي، راجيًا عفوي، أعطيتك ولم أبالي، منحتك زوجة صالحة وأبناء طائعين، وبيتًا يؤويك ورزقًا يكفيك، وطعامًا طيبًا يبقيك..
فماذا تراك صنعت؟
نتقت لك الجبل، وقذفت منه الحمم، وسيّرت فوقه الرياح، وحركت معه السحاب، وأنزلت منها الماء، وسقيت بها الزرع، وأعلمت الناسَ يوم حصاده؛ ليقدموه لك سائغًا في وجبة هنية، فماذا تراك صنعت؟
رأيتك وأنت تعصيني في خلواتك، شاهد كتابك ينطق عليك بالحق، فيه كل صغيرة وكبيرة فعلتها، ورصد لكل نية هممت بفعلها، هذا ما صنعته في يوم كذا، وهذا جميل ستري عليك ولم أفضحك بين أهلك، وهذا طريق الرشد الذي هديتك إليه لتعود إلي تائبًا..
ربي.. لا يؤرقني نشر ذنوبي في بث حي ومباشر أمام الأمم الجاثية من لدن آدم، إنما يحزنني ويتعب قلبي عتابك لي، وأنت من أكرمني وأحسن مثواي.
اللهم اشملني في السبعين ألفًا من أمة محمد ﷺ الذين يدخلون الجنة بغير حساب، واجعلني في كنف قولك: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾
لأن “من حُوسب عُذّب”