سافر فإن في السفر خرط وتبختر
عشق الإنسان للسفر سرمدي، وحبه للتنقل والترحال لن ينتهي حتى ينعم بالإقامة الخالدة في جنة الرحمن، وكلما تراءت حروف السفر الثلاثة لمرأى أحدنا عادت به الذكريات لحنين غريب، ولهفة عجيبة، وأماكن تمرح فيها الذاكرة وتروح، تبهج النفس وتسعد الروح،
وهذا الحال لمن سافر ولمن لم ينعم بالخروج من باب بيته، ببساطة هو موروث فطري من لدن آدم عليه السلام يوم سافر من جنة ربه للدنيا، وأمله في الرجوع لها تارة أخرى..
ومن بين البشر كلهم فإن السفر عند الفلسطيني غاية المنى والمقصد والمرتجى، حاجته إليه ملحة، ورغبته فيه متزايدة، إصراره عليه دائم، وطلبه لا ينتهي، وأهل غزة حالة استثنائية من فلسطين ككل، فبعد حصار جائر لست سنوات مازال الشباب خصوصاً في لهفة للخروج وتنفس الصعداء خارج حدود الـ 365 كلم الغزية، السفر فقط لأجل السفر لا لغاية أخرى، بعدما حفظ وجوه مليون ونصف هو في شغف لرؤية وجوه جديدة، وبعدما جرب القصف والدمار والاغتيال والتجريف مازال يرنو لأحداث جديدة، وبعدما أكل الشاورما والتايلاندي والتشيكن بيتزا والرز والمفتول مستعد لدفع آلاف لأكل الكشري وشرب القصب والجلوس في مطاعم وفنادق ذات نجوم ذهبية، باختصار يحتاج الغزي لمساحة أكبر من رقعة الأرض التي زرعها جيئة وذهاباً ليطأها.
رغم ذلك تجد لأهل غزة طقوساً خاصة في السفر، وحركات متكررة بلا كتاب إرشادي مسبق، وتحس أنه يريد أن ينقل غزة للعالم في حقيبته:
– تحمل الناس ضمن أمتعتها الملابس والأدوات، أما الغزاوي فلا يمكن أن يسافر بدون زيت وزيتون وزعتر وبندورة وخيار وكشك وخبز وشاي وقهوة ومرمرية، ولوز ومكسرات و..
– لا يمكن أن يسافر الشاب بدون “الجل” وكريم الشعر والعطر والفرشاة ومعجون الأسنان حتى لو لم يكن يستخدم الأخير أصلاً.
– رغم أنه خارج غزة أرخص سعراً لكن لا مانع من حمل “كروز” دخان أو اثنين.
– ضمن الملابس لابد من البدلة، ومع الأدوات لا مفر من “غلاية الشاي”، ومع الأغراض الأخرى ضروري “المدقة والسلطانية”. “ولولا العتب كان شال معه مكواه وسخان”.
– العلم والكوفية ودبابيس عليها قبة الصخرة ليضفي على نفسه لمحة الوطنية من ريحة البلاد، رغم أنه في بعض من الأحيان “يلعن اليوم اللي ولد فيه بهيك أوطان”.
– قبل أن يسافر ينشر موضوع على حسابه على فيس بوك يودع الأصدقاء على أمل اللقاء بعد السفر المفاجئ الذي هبط عليه من السماء فجأة. مع أن إجراءات السفر تحتاج على الأقل أسبوع حتى يتم الانتهاء منها.
– يحرص في كلامه مع المودعين على التأكيد بعدم رغبته في السفر وأنه لا يريد الخروج ولا يهوى السفر ولا يحب التنقل، وأن الموضوع “أجا على عينه” بينما “طلعت عينه لحد ما تمت الموافقة له على السفر”.
– مثله مثل الياباني يحمل الكاميرا ويصور كل شيء ويلتقط لنفسه الصور مع كل شيء، وقد لا ينظر للأماكن حوله ولا الأحداث إلا من وراء عدسة جواله، حارماً نفسه من لذة عيش اللحظة والاستمتاع بالوقت بالشكل الصحيح.
– يحاول أن يضفي العظمة والتبجيل على كل مكان يزوره وكل شيء يشتريه وكل حدث يقوم به، على اعتبار أنه سندباد والرحلات التي قام بها من المستحيل أن تتاح لأي شخص عادي، ويبدأ مهرجان “الخرط” العالمي، على رأي المثل: “ما أكذب من شاب متغرب إلا عجوز راحت أيامه”
– ينشر صوره أولاً بأول على فيس بوك رغبة في النكاية بمن لم يحظ بفرصته في السفر من أقرانه، وقد يقف أمام مبنى البيت الأبيض في واشنطن ثم يكتب تحته: “بعد زيارتي للرئيس الأمريكي في البيض الأبيض” بينما نفسه يكتب تحتها: “موتوا بغيظكم”.
– لابد من إصبعي الشهادة والوسطى لأعلى، على شكل حرف V أو ما يسمى علامة النصر عند كل صورة وفي كل مكان، وكأنه مهرجان الانتصار الذي تشرف هو بافتتاحه وإقامته في بلاد الأغراب.
– يشد على يد كل من يصافحه بحرارة ويبتسم ابتسامة أوسع من ميدان التحرير، وتحت الصورة يعلّق: خلال لقائي مع المسئول الفلاني ومناقشة القضايا الفلانية والحديث عن القضية الكونية، بينما هي لحظة مرور عابرة لشخص مهم في مكان تواجد فيه صاحبنا قدراً.
– يزيد من جرعة النعرة في كل يوم يمر عليه أكثر، وأن السبب في سفره كثرة الأصدقاء الذين يصرون على لقائه والمعارف الذين يخطبون وده وينتظرون تواجده ويرغبون بالخروج معه، أما هو فيرغب وبشدة في العودة لأمه الحنون وبيته الدافئ، وأكل الفلافل والحمص والفول.
– لا بأس من المزيد من المبالغة أثناء الدردشة معه عبر أي وسيلة تواصل:
“الوضع هنا تمام.. مكيّف والله 24 قيراط”
“النت سرعته 3 طن بالثانية، وبالكافي نت وايرليس ببلاش، حتى في الشوارع”
“الأكل للزور ومش ملاحق كل يوم مطاعم شكل”
“البنات هنا نخب أول وكلهم بيموتوا في عشان فلسطيني”
“الشارع هنا يا زلمة قد البلد عنا كلها.. آه والله”
“العنب اللي هان يا راجل قد المانجا..”
– يبدأ موال الحنين للوطن والرغبة في رفقة الأصدقاء والعودة لشلة الأنس وحضن الأصحاب بعد الأسبوع الأول من السفر، وأنه مشتاق لبيته وأهله وسيعود في أقرب وقت ممكن، وكلنا نعرف أن مدة إقامته انتهت ويوم واحد زيادة كفيل بترحيله هو والدقة والزعتر والسلطانية وغلاية الشاي في باص 105..
– أما مهرجان المغامرات والأحداث الخارقة فتستمع به لساعات عند عودة صاحبنا من الغربة.
– أول كلمة بعد التهنئة بسلامة الوصول لأرض الوطن الحبيب: “ما في أحسن من بلدنا.. لو تلف العالم والله ما تلاقي أحلى من هادي البلد”.
– إذا صادف ومر في سفره على بلد أجنبي، ضروري يعطيك انطباع أنه لقط اللكنة وبالكاد يعرف معنى الكلمات بالعربي، “لما حضرنا الإيفينت تاع سيليبريشن.. اللي.. إنت شو بتسموها هون؟.. آه.. صح الحفل” قصده ع العرس اللي كان يطردوه منه فوق سطح بيتهم وهو صغير
– خلال جولته في بلده بعد العودة تراه ينظر باستغراب لشارع عمر المختار والناس فيه وعلى لسانه عبارات: “يا عمي الناس هناك غير، أفكارهم غير وحياتهم غير حتى كلامهم غير، والله كانت أيام.
ملاحظة: المعلومات الواردة أعلاه من محض خيال المدوّن، وأي تشابه مع واقع ما في بلد ما فهو نتاج صدفة بنت أخو شلن لا دخل له فيها.
تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِيْ طَلَبِ العُلَى وسافِر ففي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِـدِ
تَفَرُّجُ هَـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيْشَـةٍ وَعِلْمٌ ، وآدابٌ، وصُحْبَـةُ مَاجِـدِ
فإن قيلَ في الأَسفـارِ ذُلٌّ ومِحْنَـةٌ وَقَطْعُ الفيافي وارتكـاب الشَّدائِـدِ
فَمَوْتُ الفتـى خيْـرٌ له مِنْ قِيامِـهِ بِدَارِ هَـوَانٍ بيـن واشٍ وَحَاسِـدِ
الإمام الشافعي رحمه الله
فش زر لايك هنا هههه ،
أبدعت خالد 😀
أبدعت أخي خالد في الوصف .. وأصبت عين الحقيقة بطريقة سلسة ومرحة قل نظيرها
رااائع
تذكرتي بهذا الفيديو
http://www.youtube.com/watch?v=jtd_s61vgxg