سياسة

لماذا خرج الشعب المصري في مظاهرات ضد النظام؟

المتظاهرون في مصر فوق الدبابة
مجموعة من المتظاهرين المصريين فوق ظهر دبابة عسكرية احتجاجاً على الرئيس مبارك والنظام الحاكم

لابد أن نتفق على أن شعب مصر عاطفي، ولم يخرج للشارع بطراً ولا رئاء الناس، ولا شك أن الذين انتفضوا في مظاهرات الخامس والعشرين من يناير خرجوا – في معظمهم – بشكل عفوي، وأكاد أجزم، بناء على تجربة احتكاك مباشر، أن الشعب المصري من أكثر الشعوب العربية فقراً وطحناً على مر العصور، وحُق له أن يعبّر عن حالته المتردية وحاجته الماسة للتغيير..

رغم ذلك لم يكن هذا السبب هو المحفز الرئيس للملايين التي خرجت..
منذ حرب أكتوبر 73 والمواطن المصري يطرب آذان أبنائه وأحفاده بروايات عن نضاله، وقصصٍ عن أمجاده وبطولاته ضد الأعداء.. ويكبر الأبناء ويكبر معهم حب الوطن ورغبتهم الجامحة في تقديم أنفسهم رخيصة لأجل بلادهم، ويتشوف الابن يوم الفتح الأكبر والثورة العظمى بعدما أصبح أباً ليثبت وطنيته، أو على الأقل ليجد حروباً وثورات شارك فيها ليرويها لأبنائه.. ولا يجد.

يتسمر أمام الشاشة وحوله أفراد عائلته يستلهم من أهل غزة الصمود والثبات وهم كالسهم يعبرون الأزمات تلو الأزمات، من حصار جائر إلى حرب ودمار هائل، فتثور حميته ويرجو ثقب إبرة يضخ من خلالها حمم غضبه، وشلالات فزعه واضطرابه لأجل الانتفاض والتغيير.. فلا يجد.

جمعة الغضب وضرورة رحيل النظام الحاكم ومبارك على رأسهتكفل أرباب السينما بوقود يومي من أفلام ومسلسلات ظن النظام أنها كفيلة بتهميش الشباب وانخراطه في شهواته، فطبخوا له حب الوطن مع حب بنت الجيران، وقرنوا التضحية بالحيرة في الاختيار بين غانية كاملة الأوصاف وبنت بلد خام، وحصروا التألق والنجومية في زمرة المطربين والممثلين واللاعبين ومن هم على شاكلتهم، وأكدوا على حرية الشاب في اختيار “المزة” وخروج الفتاة مع “الأنتيم”، ضخوا له المزيد من حب الثورة وروح المغامرة معجوناً في قالب من العشق والهوى.. كي يتزوج عتريس من فؤادة لابد من تنحيه عن النظام، وإذا أراد أحمد أن يظفر بمنى فعليه أن يخوض ثورة على أبويه ووالديها والعمدة والمخرج إذا لزم الأمر، وحتى يوافق الناس على زعامة سعد اليتيم وزواجه من ابنة عمه فلابد أن يقتل عمه ويثور على ظلم الهلباوي واستبداده، ويمكن للهلفوت أن يصبح فتوة البلد إذا تمكن من قلب النظام على رأس الفتوة والزواج من طليقته..

بينما ألمحت بعض الأفلام لحاجة الشعب المطحون لحياة كريمة، فقشعت الغبار عن المساكن العشوائية وزكمت أنوف المشاهدين بعرق أهلها، وكشفت فساد الحكومة وضباطها وبيع السادة للبلاد لمن يدفع من تجار الدم، فحاميها حراميها وهي مطية وكل من يرغب يركب، والنظام غافل أو متغافل، أو تأخذه سِنة من النوم في العسل، ولأنها فوضى ربما يأتي الحل حين ميسرة، ومن يقف ضد الحكومة يطحنه أصحاب الأتوبيس، ومن وجهة نظر الزعيم فالكل مدان، عذراً أيها القانون فليس بين الشعب أبرياء..

استفزت تلك الطاقات همم الشباب فبحث عن الحب والإثارة والمغامرة، عن النجومية والفاعلية، عن التأثير والتغيير، عن العمدة وشيخ البلد الظالم، عن الضابط المرتشي والسياسي القذر، عن النظام الفاسد والحاكم الخائن، طال بحثه حتى انتهى به المطاف على دكة الاحتياط يتمرغ في طوابير البطالة والأحلام.. ولم يجد سبيلاً لضالته.

لم يشأ بوعزيزي أن  يحرق روما، وعندما دخل القرية على حين غفلة من أهلها، لم يخطر بباله أن يخلع رأس الهرم، ولا أن يعكر صفوه بمطالب شعبية تافهة، لكنه أرسل عليه ثورة الياسمين تأكل لحم كرسيه، فداعبت ثورته عواطف الشباب من جديد، وانقلب السحر على أرباب النظام، فانبرى الثوار خلف الشاشات يحتشدون، في بيوتهم يتكدسون، وعلى قلب النظام يتفقون، ثوار تحركهم بلاغات عبر الفيس بوك وتشحذ هممهم زقزقات على التويتر، وصلتهم شرارة الانتفاضة من تونس الخضراء، وما بقي من رماد بوعزيزي كان آخر الركام الذي انتفض بعده الشعب معلناً أنه عرف الطريق الصحيح للثورة المنشودة..

الحشود المليونية في مظاهرات مصر احتجاجاً على مبارك ونظام الحكمفزحفت الحشود نحو الميدان وهم لا يكادون يصدقون أنفسهم أنهم أخيراً استطاعوا أن يفعلوها، يباركون لبعضهم البعض خطوتهم الجريئة، وكسرهم حاجز الخوف، وتحطيم أغلال الخنوع والانقياد التي طالما شلت أركانهم، تعلو الابتسامة وجوههم، ورغم الأهوال المحدقة يغزو التفاؤل ملامحهم.. نعم نحن الثوار، أصحاب راية التغيير، نحن الذين بايعوا على الجهاد والفداء ما بقينا أبداً، نحن شباب المستقبل، نحن صناع الغد المبتسم، نحن الذين خرجوا إلى الميدان، نحن الذين بملء أفواههم للظالم قالوا: لا، نحن جيل جديد يحدونا أمل في غد مشرق بلا مبارك..

– من هؤلاء من خرج لأنه يريد أن يحس ويسمع ويرى بأم عينه ما قرأه وشاهده وسمع عنه في تاريخ مصر الحافل، عن الثوار في أزمانها الغابرة، عن النقاط المفصلية في التاريخ منذ كليوباترا والهكسوس والمماليك، مروراً بثورة عرابي والضباط الأحرار في يوليو، حتى عبور القناة في أكتوبر، والآن فقط يمكنه أن يرى الدبابة وجهاً لوجه، ويسمع أزيز الطائرات تمخر عباب السماء، ويواجه هراوات الأمن المركزي ويهرب بين الأزقة والشوارع في مغامرة بطولية طالما شاهدها في الأفلام السينمائية.

– ومنهم من خرج يطالع الخبر كي ما يروي فضوله ويشبع نهمه لمشاهد الإثارة والأحداث المتلاحقة، وينتظر لحظة إسدال الستار على البطل يظفر بالبطلة ردف له على ظهر جواده وكلمة النهاية على خلفية سوداء، على اعتبار أن الشعب هو البطل ومصر حبيبته.

– منهم من خرج وعز عليه الرجوع فيصيب الآخرون نصراً، يعض عليه الأنامل ويقول يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً..

– ومنهم من يمنى نفسه بأن المشهد الختامي للأحداث سيكون دراماتيكياً لا يمكن تفويته، خصوصاً وأنه يعلم أن كافة القنوات المصرية حالياً في انشغال بالأحداث بعيداً عن الترفيه والدراما.

– منهم من انتفض معترضاً فأوغل الأمن المركزي في إيذائه والتنكيل به أو بأحد من أقرانه، فعاد ليطأ موطأ يغيظ به النظام وأهله.

– ومنهم من دعاه الشعور بالواجب نحو الأمة عساه يكثر سواد الثائرين فيتبعهم إن كانوا هم الغالبين، فخرج بعائلته ليقف إلى جوارهم في أزمة ما شهدت البلاد مثلها من قبل.

– منهم من كان من في الأرض جميعاً يزدريه والشارع بيته الذي يؤويه، فوجد في المحتشدين أنيساً لا يمل معهم جليس، ونصيباً من طعام أهل الخير تناله أيديهم.

– ومنهم من عاث النظام في حياته إفساداً، وشل الروتين البيروقراطي أركانه، وكتم الحكم الاستبدادي أنفاسه، وضيّع القضاء الجائر حقوقه، فخرج يطلق العنان لأكبر صرخة ترتج في صدره: كفى، حان الآن وقت الحساب.

– منهم من لا يريد بيع الغاز لإسرائيل بالمجان، من لا يوافق على حصار إخوانه وتجويعهم في غزة، من لا يقنع بالتطبيع والسلام المذل مع الكيان المسخ، من يسوؤه عناق ساسته لحكام صهيون، من يكره تراجع أرض الكنانة عن مكانتها واستبدال أهل مصر الذي أدني بالذي هو خير.

– ومنهم من توغل وفقد في الثورة شهيداً وبات الدم لغة حواره الوحيدة مع النظام، وفك شفرتها لا يكون إلا بصموده هناك في الميدان ورحيل الحاكم وزبانيته سادة الطغيان.

من أجل ذلك كتبنا على أنفسنا نحن أبناء مصر عهداً بالخروج للتغيير، ومن المستحيل التنازل عن ضرورة الرحيل.

خالد صافي

خالد صافي مختص في التسويق الرقمي ومدرب خبير في الإعلام الاجتماعي، حاصل على لقب سفير الشباب الفخري من وزير الشباب والرياضة التركية، حاز على جائزة أفضل مدونة عربية لعام 2012 من دويتشه فيله الألمانية.

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. مقال وتحليل أكثر من رائع
     
    بصراحة استمتعت وانا أقرأ بكل حرف في المقال
     
     

  2. مقال مميز
    مشكور أخي خالد
    الشعب المصري يشكل ما يزيد عن ربع سكان الوطن العربي البالغ حوالي 330 مليون نسمة فبالتأكيد ستنعكس ثورتهم إيجابيا علي كل الوطن العربي
    أتمني أن تعود مصر للريادة علميا وحضارياً كما كانت

  3. بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم أخي العزيز .. غفر الله لنا ولك وأدخلنا جنات القربات بلا حساب أو عذاب والمسلمين أجمعين(آمين).
    إن ما يحدث في مصر وتونس وأظنه عاجلا أم آجلا سيحدث في بلاد أخرى ليس فقط من أجل تغيير نظام حاكم لا.. لا.. لا .. والله إنها أبسل وأعمق من ذلك ..
    إن مقصود الذين خرجوا في سبيل التغيير إنما خرجوا لتغيير الظلم الذي حرمه الله تعالى على عباده .. اتدري أخي العزيز ؟؟
    والله إني أشعر أن نواميس الكون تتغير .. وأنا لا أبالغ .. صدقا إنها تتغير .. كيف؟؟
    لاحظت أن موسم الشتاء قد تأخر على كثير من البلاد العربية وأن بعض الدول كانت على وشك أن تعلن حالة الجفاف .. وسبحان رب العزة ما إن ثار الشعب التونسي على الظلم وتبعه الشعب المصري .. وحراك آخر في بلدان أخرى-ولو أنه ليس بنفس القوة-حتى بدأ الغيم بالتراكم ومن ثم هطول الأمطار .. والمعروف أن أحد أسباب احتباس المطر هو الظلم .. لهذا أعتقد أن هذا الحراك كان من أجل الله وإحقاق كلمة الله برفع ورد ظلم الظالمين فإن في ذلك شرف ومفخرة ومرضاة لرب العالمين.
    فهنيئا لهم .. بل هنئا للأمة جمعاء أن ما يزال فيها بقية صالحة ثابتة على الحق.
    فال تعالى:”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”… ألم تعلم بأن الله يرى ؟؟
    والحمد لله على تمام المنة.
    على فكرة مقالك رائع جدا … سلم الله أناملك وحفظك من كل سوء ظاهر أو باطن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Protected by WP Anti Spam
زر الذهاب إلى الأعلى